قلت له: إنهم مفسدون ولكنه لم يردْ عليّ

محيي المسعودي
كان معتصما بحبل بقرته … وهو يتقي ذات جوع … الممرات التي تراكمت على جفنيه .. أصابته بخريف خائف .. تلمس صوته في قدميه .. كانت حنجرته ترقص “الهجع” في مستنقع من الرمل على حافة الزنا .. هو نفسه الذي قتل خمبابا في غابة الحلة الفيحاء … يوم كان الخليفة يعتمر مع سيدوري قريبا من المكعب القديم .. هناك وجد لقيته . رصاصة أطلقها فم أبكم .. يومها توثقت علاقته بسرب من الرصاص البرتقالي .. بكوكتيل من الجوع والخوف والخنوع والخيانة والوفاء والزهد والبذخ . .. أعمدة الداخلين تسترق الهرب .. والبوابة فرْج بملايين العصافير .. لمّا تزل القبعة على رأس … يطلق تلك العصافير بلا مأوى .. الصوف أنكر الخراف عندما توسده النحاس .. هكذا تكلم الابكم وهو يخاطب سرطان البحر …. نسيت أن أقول لكم: إن الاميّ الذي قتلته المعرفة ذات جهل لم نبلغه بعد .. وجدته على فراش القثاء توسد إجاصة سوداء لم تنضج بعد ……….
بالأمس، كان العراق بقرة حلوبا ولودا … يمتلكها راعِ أنانيّ شره .. يشرب حليبها صباح مساء، يعلفها قشّا يابسا، ويوردها ماء اجاجا … يأكل لحم عجولها مع الخمرة الحمراء … في الليالي الحمراء ليزداد نزقا وحاشيته الهمج الوحوش … كانوا يعصرون القلوب المفعمة بالحياة خمرا يسكرهم مدى الحياة ….
تجرعنا على أرض العراقِ ………………. عصائر علقم فـي كأس ساقِ
ترنــــحنــا، فظنونا سُكارى ……………….. أقاموا الحدّ، جلدا في حَنـاقِ
وكابرنا فلم نـــجزع، وكانت ……………. عصا الجلاد في ايدي النفاقِ
اليوم، أمسى العراق فريسة ممزقة الاوصال .. تنهش لحمها كلاب سائبة وضباع .. لا بلد اليوم مثل العراق مستباح ..! أحشاؤه ينهشها الأهل الاقحاح .. سعيا الى ترف في حفل الوداع الاخير، الذي تقيأه – نزقا – سياسي حقير … ولحم جسده تنهشه مخالب وأنياب جيران متربصين يطلون بلُعابهم من على السور المتهالك .. السور الذي أنهكه النبش وضربات الرفش ..
الظلم بعينه ..عندما لا يستطيع الانسان تقرير مصيره في الحياة , عندما يُجبر على أن يكون ما لا يريد أن يكون .هنا تفقد الحياة طعمها ونكهتها .. تفقد معناها بكل التفاصيل الدقيقة المملة. الانسان لم يختر ولادته ذات لحظة راعشة ، لم يختر لونه ولا حجمة ولا أصله ولا قوميته ولا عشريته ولا عائلته ولا دينه ولا مذهبه ولا صحته . ولا ولا ولا ….. ابدا لم يختر أي شيء .. حتى الانصياع والانخراط في معركة أطلق عليها لفظ “حياة” حياة يعلم انه الخاسر الوحيد والابدي فيها .. حال فُرضت عليه فارتضاها مرغما أو راغبا . واعيا أو بلا وعي, حقيقيا أو محض وهمٍ .. هكذا نَقْيم في الحياة, ولكننا نكذب على أنفسنا أحيانا أو نتغابى أو حتى نصبح أغبياء , لا لشيء الا لكي نمر في هذه الحياة دون ان نحس بتجرعنا لمرارة طعم القهر الذي تُذيقنا ايّاه .
الدين, الامل, العمل, العلم, الرقص, الغناء, الحرب, الحب, التجارة, الصناعة…. كلها افيون, مهما تعددت أسماؤها .. افيون نتقي به قسوة الوعي والحقيقة الاقسى، افيون, يُبقينا في دوامة اللاوعي . ربما نشفع لحالنا هذه بالقول: انْ لا يد لنا بكل ما أصابنا أو يصيبنا. ولكن أن يتحول هذا الافيون الى أدوات تقهر ذواتنا وتُضيف قهرا الى القهر الخارج عن ارادتنا , انه لأمر أعظم وأشد من الاول . قد نتجاوز جريرة الموت بنفس مبررات جريرة الولادة الخارجة عن ارادتنا. ولكن ان يمتهن البعض موتنا سبيلا في زيادة جرعة “افيون العقيدة” ليسكر حد الثمالة بكؤوس مترعة من دمائنا. انه لأمر جلل لا يُحتمل .
ثلاثة أيام فقط …. الاول: أول أمس , فيه أسقط عشاق الرسول محمد وفدائيو الله .. اسقطوا عباس – احد افراد اسرتنا- بعبوة ناسفة او ربما سيارة مفخخة .. لا ادري .. ! , لا لشيء الاّ لأنه يكدح طوال اليوم في اعمال البناء الشاقة ليجلب رغيف الخبز الى افواه تخلى عنها الجميع بعد ان طلبها – العشاق ومعشوقهم والفدائيون ومفتداهم – رحل عباس تاركا ثلاث بنات صغيرات أكبرهن ستدخل المدرسة العام القادم بلا أب وستكتب أن ولي أمرها , هي أمها الأرملة فاطمة .
اليوم الثاني : اسقط العشاق والفدائيون عباسا آخر وهو من أسرتنا ايضا كان القدر قد اختاره ليكون درعا عن عباس الاول, في الشارع والمنزل والمقهى والمطعم . انه شرطي , تعاقد مع وطنه على دمه “الدم مقابل الخبز” ولكن العشاق والفدائيين بعثوا له مجاهدا مفخخا كان متشوقا لان يتناول فطوره مع الرسول . ففجر المجاهدُ نفسَه في الشارع بكل ما فيه. وحمل فطوره معه الى الرسول وكان شواء لعشرات الاجساد من مختلف الاعمار والاحلام والاعمال والاماني والآمال والمسؤوليات. يقولون ان المجاهد المفخخ تناول فطوره هذا مع الرسول وكان شرها هذا المجاهد في حضرة الرسول الذي يقول المجاهدون انه بارك له هذا الفطور …
اليوم الثالث: افطر احد العشاق والفدائيين مع الرسول – وبمباركة الرب – بجسد عباس آخر وهو من أفراد أسرتنا أيضا .. كان عباس هذا في طريقه الى الكلية وقد أكمل بحث التخرج هذا اليوم وكان عنوان البحث – ” أباريق مهشمة” في حياة الشاعر عبد الوهاب البياتي – لم يكن عباس لوحده . بل عشرات الطلاب شوتهم ايدي “الفدائين والعشاق” على جمر محبة الرسول, ليقدموا كوجبة غداء لله ورسوله على مائدة واحدة .ربما سوف يشعر الآكلون بنعومة لحم الطالبة الجميلة عائشة ابي ذر التي كانت تتأمل عباس قبل الرحيل الجماعي كشريك حياة وفيًّ لها . ساعتذلك, كنت اقف قريبا من حفلة الشواء الالهية .. انتبهت على الشيطان وهو يقف الى جانبي , كان منخرطا في نوبة بكاء شديد . يرتفع نحيبه حد السماء وتتدفق دموعه كبراكين وحمم ,سألته عما يبكيه . فقال لي: لقد حذرت الرب من هؤلاء, قلت له : انهم مفسدون في الارض, ولكنه لم يردْ عليّ .. لم يكن ديمقراطيا هذا الرب .! وها هو اليوم منخرط مثلي في نوبة بكاء لا تنتهي …. انني لا ابكي لبكائه كما يفعل المغفلون اللطامون. ولكني أبكي عليه وعلى الف عباس وعباس ما بين عباسـ ك هذا وعباسـ ذاك وعباسـ ك القادم بلا اطراف وعباسـ ك الاول , ابكي لأني فشلت في أن اعيد للرب هيبته التي اخرجتني من الجنة ذات حادث بلا تاريخ .. قلت مع نفسي وبصوت عال ” اعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وقبل ان يختفي الشيطان القى علي سؤالا ومضى وكان السؤال ” : ايها البليد انا بكيت على عباس كما ترى .. فأين دموع الرب يا تُرى ! ؟

لوحة الفنان السوري سبهان آدم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة