بختي ضيف الله
يسافر بعيدًا في قطاره المتهالك. يُخرج رأسه من إحدى نوافذه، ينظر إلى بدايته الضاربة في المجهول، ثم إلى نهايته المغروسة في الذاكرة. ترافقه الأشجار في طريقه الطويل، تعيد صورتها في كل مرة، تعبث بها الريح، لا تحترم زيتونها وبرتقالها، لا توقر انكسارها، وهي تتعرّى لتغتسل من خذلان الأقربين، يوم سُلبت الأرضُ على حين غرّة. ليس صعبًا أن تفقه صوره وهو يرسمها بالفحم مغمض العينين، دون أن ينسى عددها وترتيبها قرب النافذة التي لم يغلقها يومًا؛ لا يشعر بالبرد والحر في المكان المكتظ بالمتناقضات؛ الحقيقة مؤلمة، والمجاز قاتل، والناس حوله يحملون جراحات وآلامًا في سفرهم المتعب، ولا أحد يستعد للنزول ليقرأ أخبارًا على جريدة قديمة، يحاول صحافيوها أن يكونوا أكثر حداثة في عباراتهم، لم تبدل عناوينها العريضة ولا تفاصيلها ذات المثلث المقلوب. لم يفكر يومًا كيف هي المحطة ولا كرسي الانتظار، ومن هم المنتظرون؛ في نفسه الثائرة فراغ لا حدود له، يدفعه إلى الصراخ، يسمعه الجميع:
– أنا تعبت من السفر… أنا تعبت من السفر…
يلتفت إليه الجميع بدون أن يجيبه أحد عن سؤاله؛ فيصب غضبه على لوحاته؛ فيشفق عليه جده، يعلم أن التعذيب في سجن المحتل أفقده فصلًا من ذاكرته؛ يحاول أن يهدّئ من ثورته. لم يبق من أهله غيره، يسميه الناس شيخ النازحين؛ بدأ رحلته صغيرًا من يافا بعد أن طردته وأسرته العصابات الصهيونية منها.
أغلق الجد نافذة خيمتهما، هي أكبر خيام النازحين إلى شاطئ البحر، بعد قصف متواصل من عدو حاقد، لم يترك لهم شبرًا واحدًا من المدينة، يراقبها بطائراته التي سكنت السماء، تبدو من علٍ كخيط قابل للاشتعال في لحظة انتقام، ويرسمها هو بجنونه قطارًا قد انطلق باكرًا إلى العالم الآخر…
فصل من الذاكرة
![فصل من الذاكرة](https://newsabah.com/wp-content/uploads/2025/02/3-7.jpg)
التعليقات مغلقة