د.عادل الثامري
عندما تواجه الشعرية الحديثة الكوارث الكبرى، تبرز أمامها تحديات جمالية وأخلاقية في آن واحد. يقدم الشاعر سركون بولص في قصيدته “شهود على الضفاف”، مقاربة شعرية متميزة لهذه المعضلة، حيث يجمع بين التصوير الشامل للكارثة وتأثيراتها الإنسانية المباشرة. تستند القصيدة إلى صورة الفيضان، وهي صورة ذات أبعاد أسطورية وتاريخية عميقة في بلاد ما بين النهرين، لكن بولص يعيد صياغتها بحساسية معاصرة تتجاوز السرد التاريخي إلى استكشاف قضايا إنسانية جوهرية. يبني القصيدة على محورين أساسيين: الأول هو المشهد الكلي للكارثة بما تحمله من قوة تدميرية هائلة، والثاني هو المأساة الفردية المتمثلة في الأم التي تسبح خلف مهد طفلها. ويختار بولص موقع الشاهد كإطار سردي للقصيدة، وهو موقع يطرح أسئلة عن المسؤولية الجماعية والفردية في مواجهة الكوارث. من خلال تقنيات شعرية دقيقة – كالتكرار، والأسئلة البلاغية، والصور المادية الملموسة – يخلق نصاً يتجاوز مجرد وصف الكارثة إلى استكشاف موقف الإنسان منها. يهدف هذا التحليل إلى دراسة الطريقة التي يوظف بها بولص عناصره الشعرية – من بنية وصور ومنظور وإحالات أدبية – لخلق عمل يخاطب التجربة الإنسانية في مواجهة الكوارث، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي. من خلال القراءة المتأنية والتحليل النقدي، سنستكشف كيف تتضافر العناصر الفنية في القصيدة لدعم رؤيتها الفكرية، وكيف تندرج في سياق الشعر العربي الحديث وتراث أدب الكوارث بشكل عام.
يفتتح سركون بولص قصيدته “شهود على الضفاف” بمشهد شعري متقن البناء، يؤسس من خلاله لحضور الكارثة عبر تدرج محكم يبدأ بالصوت قبل الرؤية. تبدأ القصيدة بجملة “في البدء سمعنا الهدير” التي تؤسس إيقاعاً بطيئاً وثقيلاً يحاكي صوت الكارثة نفسها. يلعب التكرار دوراً محورياً في بناء التوتر الدرامي، إذ يتكرر “في البدء” و”قبل أن نرى” ليخلق حالة من الترقب والتوجس، وكأن الكارثة تتشكل تدريجياً في وعي المتلقي.
يبني الشاعر مشهده الاستهلالي عبر تدرج دقيق يبدأ بالصوت المجرد (الهدير)، ثم ينتقل إلى حركة الجبال (“اصطكّت ركبُ الجبال”)، وصولاً إلى الانهيار الكبير (“انهارت سدّة العالم الخفية”)، وأخيراً مشهد الأشياء المحمولة في التيار. هذا التدرج في بناء المشهد يمنح النص قوة درامية تتصاعد مع كل تفصيل جديد. وتكتسب قائمة الأشياء المحمولة في التيار أهمية خاصة في النص، إذ تشكل سجلاً رمزياً للحضارة الإنسانية المهددة بالفناء. تبدأ القائمة بأبواب البيوت التي ترمز للحماية والخصوصية المفقودة، ثم الأشجار المقتلعة من جذورها التي تمثل فقدان الهوية والانتماء، مروراً بأعشاش اللقالق التي ترمز للحياة العائلية والاستقرار، وصولاً إلى التوابيت التي تشير إلى حضور الموت وسط الحياة. يضيف الشاعر إلى هذه القائمة “دولاب عروس له ثلاث مرايا” في إشارة رمزية للأحلام والمستقبل المهدد. تستدعي عبارة “في البدء” في المقطع الاستهلالي، النص التوراتي وقصص الطوفان في التراث الديني، مما يضع النص في سياق أوسع من قصص الفناء والخلق. هذا البعد التناصي يمنح النص عمقاً أسطورياً يتجاوز الحدث المباشر، ويؤسس لثنائيات عميقة تستمر عبر القصيدة: الصوت والرؤية، الثبات والحركة، الحياة والموت، الطبيعي والإنساني.
من خلال هذه المستويات المتعددة، يخلق بولص مشهداً شعرياً متكاملاً يتجاوز مجرد وصف الكارثة إلى تأسيس رؤية شعرية عميقة حول هشاشة الوجود الإنساني وقوة الطبيعة المدمرة. يستخدم التفاصيل المادية الملموسة ليصل إلى المعنى الوجودي الأعمق للكارثة، مؤسساً بذلك لنص شعري يجمع بين قوة التصوير وعمق الرؤية.
يشكل مشهد “المهد يجري على الأمواج” صورة شعرية غنية بالتكثيف الرمزي والإنساني، تلامس أعماق التجربة البشرية في مواجهة قوى الطبيعة والقدر. المهد هنا يمثل رمزًا محوريًا يجمع بين البراءة والحياة الوليدة، لكنه في الوقت نفسه يواجه خطر الغرق والانجراف، مما يخلق توترًا بين الأمل واليأس. هذا المشهد يتناص مع أساطير الطوفان، سواء في ملحمة كلكامش أو الميثولوجيا الأكادية، فضلا عن قصة النبي موسى. في أسطورة سرجون الأكدي، نجد أن المهد الذي يطفو على الماء ليس مجرد أداة للحماية، بل رمز لصراع الحياة مع قوى الطبيعة الغامضة، ووسيلة لإبراز هشاشة الإنسان أمام القدر. وفي قصة النبي موسى، التابوت الذي أُطلق في النهر يحمل دلالات مشابهة، حيث يصبح الماء وسيطًا للنجاة ولكنه في الوقت ذاته مصدر خطر كبير. لكن في قصيدة بولص، غياب أي عناية إلهية أو تدخل قَدَري ينقلنا إلى مأساة وجودية خالصة، حيث الأم التي “تسبح وراء المهد” ترمز للعجز البشري العاطفي أمام قوى لا يمكن السيطرة عليها.
يعيدنا الطوفان الذي يجرف كل شيء في بداية القصيدة – البيوت، الأشجار، وحتى التوابيت – إلى الأساطير الكبرى للطوفان، مثل طوفان كلكامش أو طوفان التوراة. هنا، الطوفان ليس مجرد كارثة طبيعية، بل رمز كوني لإعادة تشكيل العالم وهدم ما كان. الأمواج التي تحمل “المهد” تُجسد هذه القوة التي تجرف كل شيء دون تمييز، بما في ذلك رموز الحياة الجديدة.
تجسد صورة المرأة السابحة وراء المهد العاطفة الإنسانية في أعمق حالاتها؛ الأم السابحة هي رمز للإنسان الذي يحاول التمسك بالأمل، وإنقاذ البراءة والحياة من قوى الطبيعة المدمرة. لكن جديلتها الطافية وعينيها الغارقتين في الماء تعكسان المأساة والفقدان. الأم ليست أمًا عادية فقط؛ بل تمثل البشرية في نضالها المستميت لإنقاذ ما تبقى من قيم ومعاني في عالم ينجرف نحو الفوضى. اما المهد هنا ليس مجرد وعاء للحياة الجديدة، بل هو “العالم المصغر” الذي يواجه قوى أكبر منه بكثير. ومع ذلك، يبقى رمزًا للأمل الذي يتمسك به الإنسان حتى في أحلك الظروف.
“من يوقف العالمَ عن الانجراف؟” هذا السؤال البلاغي يقطع أي أمل بالخلاص، ويجعل الموقف مأساويًا تمامًا. على عكس قصص الطوفان أو موسى، حيث يوجد تدخل قَدَري لإنقاذ البراءة، نجد أن “لا أحد” في القصيدة قادر على إنقاذ المهد أو رفعه من بين “مخالب التنين”. هذا الغياب الكامل للخلاص يعمق البعد الوجودي للقصيدة، ويبرز عبثية المحاولة البشرية أمام الكوارث الكونية. وتعكس صورة “التنين” الذي يخطف “المهد” رمزًا متجذرًا في المخيال الأسطوري والملحمي، حيث يمثل التنين عادةً قوى الشر أو الفوضى التي تهدد البراءة والنظام. في هذا السياق، يصبح المهد رمزًا للطهارة والحياة الوليدة التي تحاول النجاة من براثن هذه القوة الكونية المدمرة. السؤال “من يرفع المهد كالطائر من بين مخالب التنين” لا يبحث عن إجابة بقدر ما يعبر عن إدراك لعجز الإنسان أمام قوى تفوقه، ويشير إلى عبثية المقاومة في مواجهة كارثة ذات أبعاد أسطورية.
يقابل الصورة الملحمية للتنين مشهد “رجلٌ واحد ألقى بنفسه لاعنًا في التيار”. هذه التضحية الفردية تضفي بعدًا إنسانيًا على الكارثة، حيث يتحول هذا الرجل إلى رمز لمحاولة الإنسان استعادة معنى وسط الفوضى، حتى لو كانت نتيجته الفناء. وصف النهر الذي يتلقاه “كأنه ذبيحة” يعمق البعد الطقسي للتضحية، ويجعلها أشبه بعمل تطهيري، لكنه في الوقت ذاته بلا جدوى، حيث تنتهي بمحوه.
ويشكل “الشهود على الضفاف” عنصرًا جوهريًا في النص، انهم يمثلون دور الإنسان كمراقب عاجز عن التدخل أو تغيير المصير. والضفاف ليست مجرد موقع جغرافي، بل هي رمز للحد الفاصل بين عالمين متناقضين:
1. عالم النجاة المؤقتة: حيث يقف الشهود سالمين، لكنهم في حالة من الاغتراب الأخلاقي.
2. عالم الكارثة والفناء: حيث يحدث الانجراف، الصراع، والتضحية.
هذا الموقف الحدّي يطرح أسئلة أخلاقية عميقة حول دور الشاهد: هل البقاء على الضفاف موقف مبرر؟ وهل يمكن للإنسان أن يظل مراقبًا دون أن يتورط في الكارثة نفسها؟
كل هذه العناصر – من المهد والتنين إلى التضحية والشهادة – تتضافر لتخلق نسيجًا شعريًا محكمًا. لا يكتفي بولص بتصوير الكارثة كحدث خارجي، بل يستغلها لاستكشاف العلاقة المعقدة بين الإنسان وقوى الطبيعة، وبين الفرد والجماعة، وبين الشاهد والمسؤولية.
1- الإنسان والكارثة: الإنسان هنا ليس سوى جزء صغير في مشهد أكبر، عاجز أمام قوى الطبيعة والقدر، ومع ذلك لا يتوقف عن المحاولة.
2- الشهود والمسؤولية: الشهود يقفون على الضفاف في أمان، لكنهم ليسوا بمنأى عن تبعات الكارثة، إذ يحملون عبء الشهادة ومسؤولية نقل التجربة.
3- العجز والإرادة: في حين يغيب التدخل الإلهي أو الخلاص الأسطوري، تظل إرادة الإنسان حاضرة في صورة الأم السابحة والرجل المضحي، حتى لو كانت محاولاتهم عبثية.
وبهذا البناء الرمزي، يتجاوز بولص التناول المباشر لفكرة الفيضان أو الكارثة إلى أبعاد أعمق تتعلق بالوجود الإنساني. النص يسائل طبيعة المصير، ويضع القارئ أمام أسئلة وجودية: هل نحن شهود فقط أم جزء من المأساة؟ هل يمكن للإنسان أن يصمد أمام قوى الكارثة أم أن دوره ينحصر في محاولة عبثية للبقاء أو التضحية؟