د. وليد عويد حسين
يقول ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء في معرِض حديثه عن قيمة الشعر: ((فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرنا له واثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله أو حداثة سنّة، كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه)).
إن من بين العديد من النظريات بل المناهج والسنن والأعراف التي تدعي الحداثة ابتكارها واكتشاف أصولها إنما تعود في أصولها الى الموروث النقدي والبلاغي العربي القديم ولاسيما النقدية منها التي تبنت مهمة تناول الأعمال الفنية الإبداعية بالنظر والدرس والتحليل.
لقد وظف ابن قتيبة في مقولته النقدية – قيد القراءة – قضية إلغاء الزمنية إلى جانب إلغاء الاعتداد بالذات الصانعة للعمل الفني بقدر الالتفات إلى جوهر العمل الفني ذاته من الداخل على جهة التحديد، فعنده يكمن النظر التقييمي لنتائج ذلك العمل بالنص المبتكر ذاته لا إلى صاحبه الشاعر مثلاً استنادًا إلى الآليات المتبعة في صناعته حيث تكمن القيمة الفنية الحقيقية فألغى تبعًا لذلك مسألة التأخر والتقدم الزمنيين فضلاً عن المنزلة ثم ألغى مسألة الشرف الشخصي والرفعة والصغر والكبر لمبتكر العمل الفني ومبدعه موليًا قضايا الحسن والرداءة والجدة الأهمية القصوى في عملية تقييم العمل الفني وحساب مدى إبداعيته وقيمته ومن ذلك النص الشعري، فكانت هذه المسائل عند ابن قتيبة هي المعايير المثالية لقراءة العمل الفني وتقييمه ولا شك في أن ذلك يعد إشارة واضحة من لدن هذا العالم الناقد الجليل إلى قضية إقصاء الصانع وموت المؤلف تلك النظرية التي تبنت المدارس البنيوية ولاحقاتها مهمة الترويح لها – منذ عام 1968 على يد رولان بارت، وفي عام 1969على يد ميشيل فوكو، وقبلهما موريس بلانشو وحديثه حول الغياب في كتابيه المؤسسين الفضاء الأدبي 1955، والمستقبل 1959- ووضعها داخل فضاء المعترك النقدي الحديث، وذلك إن دل على أمر مهم فإنما يدل على أصالة الموروث العربي القديم الذي اتخذه هؤلاء ولا سيما الغربيين منهم مرجعًا مثاليًا للتقعيد والتأصيل لمذاهبهم الأدبية والنقدية الحديثة فضلاً عن دلالته الواضحة إلى إغارة هؤلاء على قواعد ذلك الموروث الثابتة ومن ثم محاولة تغيير ملامحها الخارجية وكذا تغيير وجهتها الحقيقية ومن ثم جعلها مركبًا ذلولاً لتحقيق مآربهم، على الجانب المقابل فإن هذه الأفعال الحداثية تنبئنا بمدى ذلك الجهل الذي وقع تحت طائلته المثقفون العرب ولا سيما المحدثين منهم من جهة انجرارهم وراء تلك الآراء الغربية بحجة التحديث والتجديد متغافلين بشكل متعمد أو غير متعمد أصالة وأسبقية الموروث العربي.
إن القيمة الحقيقية التي أقام من خلالها ابن قتيبة دعامات (الثناء) على العمل الإبداعي قد جاءت في نظره النقدي الحصيف متمخضة عن العمل ذاته لا عن محيطه على الرغم من إيلائه تقانة البيئة أهمية كبيرة في تلك الصناعة لكنه أراد من خلال هذه المقولات التنظيرية المقروءة في هذا المقام التركيز المباشر على النص الشعري بوصفه كيانًا مستقلاً بذاته ذا بيئة وكينونة خاصة به دون سواه بعيدًا عن المؤلف بوصفه ذاتًا منتجة لذلك العمل والسبب في ذلك قد يعود في زاوية معينة منه الى قضية الاختلاف الشعري بين شاعر وآخر فضلاً عن الاختلافات المتصلة بالذوات الشعرية نفسها الأمر الذي أوصلنا الى جانب الأحكام الموضوعية النقدية التي تبناها ابن قتيبة في مصنفه القيم هذا اعتمادًا على أسس ومعايير الجودة والحسن والقيمة الفنية لمفاصل العمل ورفضًا لقضية الطبقية الاجتماعية التي عدها سابقوه معيارًا نقديًا للمفاضلة بين الشعراء كذوات لا بين نتاجاتهم الشعرية على جهة الحقيقة.
إن مسألة الانفتاح الثقافي الذي كان نواة مثالية لتأسيس مثل هذه النظريات النقدية الجديدة ومنها نظرية البنائية في النقد الحديث بإمكاننا إرجاعها-مطمئنين- الى تلك الأحكام النقدية التي أسسها ابن قتيبة في مؤلفاته الكثيرة ولا سيما كتاب الشعر والشعراء، حيث حضور الانسجام والتآلف بين روح تلك التنظيرات النقدية المتمخضة عن فكر هذا العالم الجليل.
فإذا ما علمنا يقينًا أن النظرية البنيوية التي نادت حال تأسيسها الى قضية موت المؤلف قد قامت في أصل جوهرها على مسألة البحث عن الحقائق الظاهرة والملموسة ومن ثم الاتساع وصولاً الى الإدراك والماهية تشكلت لدينا تلك الرؤية الحقيقية التي تعود بنا الى منهى قول ابن قتيبة الآنف القراءة ولا سيما ان تلك الحقائق المشار اليها في هذا السياق إنما تتعلق بصورة رئيسة بالنص وجوهر العمل لا بصاحبه.
في فضاء المعترك النّقدي، أولويّة المُتبنّى في إقصاء الصانع وغياب المؤلف

التعليقات مغلقة