كمال عبد الرحمن
المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له، لعلاقة بين المعنيين مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، والعلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي قد تكون المشابهة وقد تكون غيرها ((وقد تكون لفظية وقد تكون حالية)). كما إن لغة المجاز، هي لغة منزاحة وهي (لغة داخل اللغة)، وفي المجاز الكلمة تتجاوز مدلولها وتشير الى أكثر مما تعبر عنه. إن تشكيل المجاز يمد أجنحته خارج حدود الواقع ولغته الضيقة، ليفتح آفاقا من التكهنات والتحولات التي تشتغل تحت مظلة التحليل والتأويل من أجل تشكيل لغوي جديد ومغاير، له القدرة على الانفتاح على مساحات لغوية آهلة بالمتضادين التشفير والتفسير. اما ((الاستعارة فهي صورة من صور المجاز، وهي تشبيه حذف أحد طرفيه الرئيسين، المشبه، أو المشبه به بعد حذف أداة ووجه الشبه))، ومن صور المجاز الاستعارة المكنية وهي التي تعار فيها صفات شيء لشيء آخر فيظهر بهذه الصفات الجديدة التي أعيرت إياه ـ وليست من طبيعته ـ في صورة غير صورته في الواقع.
تشتغل قصائد الشاعر الكويتي دخيل الخليفة في الغالب منها على المجاز، وهو الأمر الذي يثري النص ويخلخل مفاصل المعنى ثم يعيد ترتيبها تحت سطوة ( شرف المعنى) ، ففي قصيدة(كرسي أعرج ..يحتضن الدخان ) نقرأ:
((اخترت الماء بيتا
اخترت الهواء صديقا في التوابيت الأزلية
كانَ بوسْعِ اللغةِ أنْ توحِّدَ ألوانَ الوجوه
وأن يشربَ جارٌ مع جارهِ
سرابَ صداقةٍ وهميةٍ قبل اندلاعِ النار
كان بوسعِنا أن نحفظَ خطوطَ الأرضِ
رائحةَ لهجتِنا في رواقِها..
نحنُ الثملينَ بعروقِ الأسلاف
احتضنّا الدويّ وكثافةَ الشَّعْرِ)) ديوان(أَعيدوا النظرَ في تلك المَقبرة/الإخراج: ستوديو سيماء/دولة الكويت/2022/ص12)
مما لاشك فيه أن صناعة الألفاظ المسبوكة سبكا دقيقا تؤدي الى صناعة فكرة عميقة، كما يؤكد الجرجاني في كتابه دلائل الأعجاز على صناعة البلاغة في تركيب اللفظ و((اخراج الكلام مخرجا حسنا))، لكنه لم ينسَ (شرف المعنى ) حين قال:
((أنه لايُتصور أن تعرف لفظا موضحا من غير ان تعرف معناه ولا أن تتوخى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبا ونظما، وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر فيه هناك)) فمن هنا تنشأ فكرة ترابط واتصال وانسجام عناصر النص بعضها ببعض، لتتشكل من خلال وحدة النص ووحدة الشكل ووحدة الموضوع، وإن النص/ القصيدة ليست الا كُلاّ يتضمن اجزاء متناسقة ومتماسكة فنيا وعضويا، أي أنها كتلة لغوية ذات خصائص فنية عالية الجودة، و((أجود الشعر ما رأيته متلاحما، سهل المخارج، أفرغ فراغا جيدا وسبك سبكا واحدا)).وتشتغل قصيدة الشاعر دخيل الخليفة هذه عامة على الاستعارة التي هي صورة من صور (المجاز) في اللغة ،حيث تتشكل هذه القصيدة من خلال عدد كبير من الصور، يقوم بعضها على الجدلية ،والأخر على التناقض وغيره على المفارقة وغير ذلك.
في قصيدة (كرسي أعرج ..يحتضن الدخان) نقرأ:
1.( اخترت الماء بيتا):
كيف يختار الشاعر بيته من الماء، هذه صورية مجازية يرسمها وعي الشاعر الدخيل في غاية الذكاء، أليس ذلك إشارة الى نقاء الفضاء الذي تم اختياره، فالأماكن تتلوث، والأزمنة تضيع، ومن الصعب أن يجد الانسان بيتا يؤويه، تقوم أعمدته على الصفاء وحسن النيات، ولكن الشاعر لا ييأس، ويحاول كل يوم حتى يصل الى مكانه النقي الذي يلفه البياض والجمال من كل زاوية.
2.( اخترت الهواء صديقا):
الآخر الموشى بالندئ والأصالة، غالبا ما يشكل الملاذ الذي تلتجئ اليه الروح قبل أن تفقد اتجاهاتها، الآخر( الصديق) رئة زمانية يتنفسها المكان عندما تضيق النفوس، و( الهواء/ الصديق) هو استعمال مجازي ذكي، كون الهواء هو الحاجة والأهم والاخطر في حياة الانسان.
3.( توحِّدَ ألوانَ الوجوه):
كيف يوحد الشاعر ألوان الوجوه، ما لم يكن مسلحا بالمحبة ومدججا بالإنسانية، أن توحيد الألوان أمر مجازي لا يمكن تطبيقه إلا في الأحلام، فهو تمجيد للرؤى واسعاف للأمنيات الشاهقة، وسمو في سماء القصيدة.
4.( سرابَ صداقةٍ):
المجاز هنا يفضح حقيقة الصداقة التي لم تعد إلا وهماً أو سرابا، فكيف يؤنسن الانسان مشاعره خارج حدود التشيؤ ما لم يكن مدمنا على النقاء والوفاء.. إنها أسئلة لا جواب لها!
5.( نحفظَ خطوطَ الأرضِ):
تكون الارض قد تاهت في مجاهل العناوين، ثم تأتي القصيدة لتعدل سيرتها الثانية الى الأولى، خطوط الارض مجاز يربك المعنى مالم يكن الشاعر مقترفا جزالة اللفظ في الازاحة، ومحملا بالاستعارة العميقة التي تهب الارض هويتها البيضاء، حيث تكون الارض غير الارض سوى ما تناسل منها من انزياحات تملأ المعنى سحرا ومعاني ودلالات جديدة.
6.( رائحةَ لهجتِنا):
ماهي رائحة لهجتنا، يقول المجاز إنها سيمياء المقاصد البكر، التي لم نستدل بها سوى على رائحتنا، فحروفنا تمشي على رؤوس أصابعها حذر الخفر لا الخوف، وهكذا يشتغل المجاز، إنه يحفر عروق المعنى ليخرج بدلالات جديدة.
7.( نحنُ الثملينَ بعروقِ الأسلاف):
من نحن؟ يقول المجاز وهو يفتش في مقهى الوقت عن نسب ثقبته الاوجاع حتى باع هويته من شدة الألم، فكلما ضربنا اليأس بسيف السدى صرنا صدى التواريخ التي لم يحفظها أحد، ولا ينتمي اليها سوى المنسيين!.
8.( احتضنّا الدويّ):
كيف نحتضن الدوي؟ يسأل المجاز استعارته، ما لم نكن قد اتقنّا مهنة الموت سلفا، وصارت الشظايا جزءا من حياتنا اليومية، فنحن نقيم داخل الموت منذ أزمنة عقرتها المعارك المضحكة حتى غرقت بالدم، ولا نتلعثم، فصوتنا جعجعة الدهور فكيف لانحتضن الدويّ.. أوَ لا نتعلم!.
إن تعريف الاستعارة على بساطته وشيوع تداوله في الكتابة فيه شيء من الابهام، فثمة سرّ هنا ،وتفسير (او مقترح تفسير)هناك، وغموض في هذا الجانب من التعريف، ووضوح (او بعض وضوح)هناك، وأساس جمال الاستعارة في كل الاحوال(ان تكون معبرة عن شعور الاديب “النّاص “ملائمة للفكرة متسقة مع غيرها من الصور في الموضوع)،كما أن هذه الاستعارة لها القدرة على (جعل غير المحس محسا وغير المشخص شخصا) وبإمكانها (خلق صور خيالية متعددة باستعارة شيء لشيء اخر ليس من طبعه) وكذلك، فإن فيها تحولا من طبائع التقليد الى طبائع التجديد والتخيل)،ولكن هذا كله لا يقارن بتعريف الاستعارة على انها( حاجة نفسية يُرويها ظمأها بالخروج من قمقم المعاني الجاهزة( التقليدية ـ المكررة) الى مجرات التخيل والسمو الوجداني مرورا بالرؤى والكوابيس والخرافات والاساطير والتواريخ وغير ذلك مما يجعل النفس في لهاث دائم لخلق الصورة الأخرى التي تؤطر إبداع النص بالاستعارة التي هي منفذ من الاحتباس نحو فضاءات لدى الناص.
أما الشاعر دخيل الخليفة فقد تجاوز هذا كله، فلم تعد الاستعارة لديه هي تبديل صور أو تخيل معان جديدة، بل استعارته هي فلسفة البحث عن (المعنى الخاص)كما قلنا، ونقرأ في قصيدة(أرقام من حياة بلا معنى):
(( أنا عالق في أمسي
صوت متقطع
طاشت صرخته في معطف الحزن!
لست نهرا لأهرب من ثوبي!)) ديوان(أنام لأتذكر .. أصحو لأنسى !، دار كلمات للنشر والتوزيع ،(ط1) ،2022، ص45).
ويمكن أن نلاحظ دور المجاز والاستعارة في اثراء النص، وتطوير قدراته الدلالية لخدمة المعنى واغناء صوره الشعرية.
يقول العالم اللغوي ابن جني)) والمجاز هو خروج على استعمال اللغة وفقا لحقيقتها)) واسباب العدول عن الحقيقة الى المجاز هي:
((الاتساع، التوكيد، التشبيه))، فالمجاز في اللغة العربية أكثر من مجرد اسلوب تعبيري، انه في بنيتها ذاتها، وهو يشير الى حاجة النفس لتجاوز الحقيقة، أي لتجاوز المعطى المباشر.
حاجة النفس لتجاوز الحقيقة، فكيف نتجاوز الحقيقة ونحن عالقون في الأمس.. هذا هو السؤال.
( معطف الحزن):
وهل لنا معطف سوى الحزن، المجاز يعمق الدلالة هنا، ويقترح معاني غامضة لأسئلة بلهاء: إذا كنا نحن الحزن نفسه.. فكيف نغادر الحزن، والحزن هويتنا وشخصيتنا ووجودنا وعدمنا، نحن أمة الحزن والحزن لايليق لسوانا!.
هذه صورة مجازية فيها كثير من التأويل والتعبير، فعندما يلتصق المعطف بجلودنا، فهذا يعني تحول الحي الى جماد بطريقة(الشيئنة)، وهذا يعني ايضا فساد الانساني الذي غادر (الأنسنة) بكثير من المساوئ نحو كهوف العتمة وصحارى الجفاف، فتعطل المرتجى وخاب الأمل، فالمعطف ههنا هو تعبير مجازي ذو دلالتين الاولى ( الدفء ــ الحياة)،والثانية ( الالتصاق ــ الجمود ) وتعني الدلالة على وقوع خطأ في هذه الحياة، ولم يرغب الشاعر بذكر ذلك الخطأ بشكل مباشر لسبب ما، فجوّز المعنى الى المعطف.
وقد استطاع الشاعر دخيل الخليفة تجاوز كل هذه العقبات، وصنع نصوصه الرائية التي امتازت بشعريتها العالية ونالت شرف المعنى بامتياز وحسبه هذا الابداع وهذا التميز الكبير.
دخيل الخليفة