“الإعجاز البلاغي في اللغة العربية: نفحاتٍ في دقة التعبير وثراء المعاني”

أ.م.د.نوال نعمان كريم
كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ) قال تعالى في كتابه الحكيم (
وقال أيضا في ذكره الكريم : ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
وقال في تنزيله المبارك : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
اللغة العربية، بما تحمله من إبداعٍ بلاغيٍّ وبلاغةٍ فائقة، تحتل مكانةً فريدةً بين لغات العالم، فكلُّ حرفٍ فيها يحمل سرًّا إلهيًّا ينبض في أذهان المتأملين، ويأسر القلوب بإيقاعه الموسيقي ومعانيه العميقة، لم تكن حروفها مجرّد رموزٍ لغوية تُستخدم للتواصل، بل هي نغماتٌ تنبض بالحياة، وتنساب لتروي قصة الخلق وجمال إبداعه.
هذه اللغة العظيمة اصطفاها الله تعالى لتكون الوعاء الذي يحفظ رسالته السماوية الخاتمة، فكانت القرآن الكريم الذي جاء في أعظم أسلوبٍ بلاغيٍّ، يُعبِّر عن المعاني العليا ويأخذ بيد المتأمل عبر الزمان والمكان. فكلُّ آيةٍ في القرآن هي نظمٌ إلهيٌّ محكمٌ، تُنسج فيه الكلمات مع المعاني، وينسجم فيه الصوت مع الروح، مما يجعلها معجزةً تُجدِّد في كلِّ مرةٍ تأملًا وتفكيرًا. وما نقول في وصفها قليل فهي ليست مجرّد وسيلةٍ للتواصل، بل هي فنٌّ عميقٌ يفتح آفاقًا من التأمل والتفاعل. ففي تراكيبها يتراقص الإيقاع، وفي مفرداتها ينطوي السحر البيانيُّ الذي يثير في النفس مشاعرَ عميقةً. هي لغةٌ تهب القارئ فرصةً لالتقاط صورٍ ذهنيةٍ تتجاوز الزمان والمكان، وتستحضر المعاني الدقيقة التي تعيد تشكيل الواقع أمام ناظري.
وعند تدبر القرآن الكريم، نجد أن الإعجاز اللغويَّ حاضرٌ في كلِّ سطرٍ، وكلِّ كلمةٍ. فالانتقالات بين الأصوات والتراكيب ليست محض مصادفةٍ، بل هي ترتيبٌ إلهيٌّ يعبر عن الحكمة البالغة. فعند التنقل بين الحروف والأصوات، تتناغم مع إيقاع الحياة الكونيِّ، وتُعبر عن تجليات الكون في صورٍ بيانيةٍ معبرةٍ، تُحيي الذهن وتفتح الأفق أمام التفكر.
وبذلك أنَّ اللغة العربية، بما تحمله من عمقٍ وشاعريةٍ، ليست مجرّد لغةٍ عابرةٍ، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من هوية الأمة وإرثها الحضاريِّ. إنها أداةٌ تُذكِّر الإنسان بمكانته في هذا الكون، وتحثه على التأمل في عظمة الخالق، مهيئةً له فرصةً للتواصل مع أسمى معاني الوجود. ونهتف بحقها نثراتٍ تليق بمقامها الكريم.
يا لغةَ الإعجازِ، يا سِرَّ الخلودِ الذي تُرْسِلُه السماءُ للإنسان،
يا آيةَ البيانِ التي أدهشتِ العقولَ، وأرهفتِ القلوبَ بالألحان.
كيف للحروفِ أن تُضاهيكِ جمالًا، وأنتِ نَفَسُ الخالقِ في كلمات؟
كيف للكلماتِ أن تبلُغَ مدَاكِ، وأنتِ روحُ الإبداعِ في نَظْمِ الآيات؟
أنتِ التي انشَقَّتْ لكِ البحارُ بأمرِ ربِّها،
وتزلزلت الجبالُ من رهبةِ خطابِكِ وهيبتها.
يا لغةَ “كن فيكون”، يا لغةَ الهدى والنور،
فيكِ تتجلَّى العظمةُ في أدقِّ التفاصيلِ، وفي أعمقِ السُّطور.
كلُّ حرفٍ منكِ يَشهدُ أن الإعجازَ ليس بمبنى الحروفِ فحسب،
بل بمعانيكِ التي تحلِّقُ في ملكوتٍ لا تدركهُ الظنونُ ولا التُّهم.
أنتِ يا لغةَ الضاد، يا سيدةَ البيانِ وعروسَ البلاغة،
يا نبضَ الأمةِ الذي لا يخبو، وأصلَ الهويةِ الراسخة
فيكِ تقفُ الكلماتُ خاشعةً أمامَ إبداعِكِ،
وتتوهجُ الأرواحُ من وهجِ نورِ معناكِ الساطع
يا لغةً علَّمتِ البُكمَ البيان،
وألبستِ الجمالَ تاجًا يليقُ بالإنسان

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة