قصة قصيرة عامل نظافة

عبد اللطيف بن أموينة
بدأنا ذلك الصيف اللاهب بالعمل في جمع الحبوب في أكياس صغيرة، وبيعها في آخر المساء لتاجر يقبع محله في نهاية الدرب المظلم الطويل المفضي إلى الغابة، ومن ثمة إلى البحر، كان المقابل زهيدًا جدًا، ولكن لا يمكنك تصوّر حجم الفرح بتلك الدراهم القليلة، وحجم النشوة التي كانت تغمرنا بامتلاك مبلغ من المال. إذ ليس غريبًا أن نتخيل أنفسنا مثل أبطال يصارعون العذاب والقسوة من أجل هدف مقدس لا يقبل التخاذل، أو الكسل.
فيما بعد، انتقلنا إلى العمل في إحدى الشركات، كان صاحبها بدويًا صلبًا فارع القامة قوي البنية، أحيانًا كان يؤخر صرف الرواتب، لكنه لم يسرقنا أبدًا، وفي بعض الأحيان يبدو غير مبال، يدخن سيجارته في السيارة، يتحدث إلى المراقب الرجل الأصلع القصير، ثم يغيب أيامًا.
في بعض المرات القليلة، كانت تأتي زوجته، تصرخ في وجه بعضنا، ثم تغرس وجهها في ملف فيه حسابات وأشكال هندسية غريبة.
أنا كنت ضمن فرقة للحفر بالفأس وجمع الأتربة، وبانتظار وصول الشاحنة الصفراء البطيئة، كنت أرفع صوتي بالغناء، ثم يلحق بي فجأة أحمد، صاحب الصوت الدافئ. لطالما عشق الغناء وكان يحلم بأن يصبح فنانًا مشهورًا وثريًا، لكن والده النجار منعه من حضور دروس تعلم الموسيقى، وتوعده بالطرد من بيت العائلة. في أحد الصباحات الباكرة هرب أحمد إلى وجهة مجهولة، ولم يعد إلا بعد أيام برفقة جدته وقريب له، كادت أمه أن تموت من شدة الألم والتفجع لغيابه. كنت أجلس رفقة محسن وعبد الله وعماد، نراها تدلف الحي ذهابًا وإيابًا، وحين تلتقي بأحدنا كانت تمرر يدها على رأس أحدنا، وتشرع في بكاء مرير، ثم تلقي بجسدها المتعب على الحائط قبل أن تعود إلى بيتها في الزاوية القصية من الحي، وكان حمادي البقال يسمع نحيبها من وراء باب محله المهشم، ويحدث نفسه: إن لم يعد ولدها، هذه الولية سوف تموت. ثم يختفي في النصف المظلم من المحل، يتحرك بخطوات ثابتة محسوبة، كان أشبه بفأر ضخم وسط الأكياس وعلب الكرتون الرطبة.
عملت مع أحمد طويلًا، واقتسمنا السمك والحلوى واللبن وقطع الخبز الباردة.
أحيانًا، كانوا يرمون بنا فجأة في أزقة أحد الأحياء الراقية… كان دورنا تنظيف محيط منازل الشخصيات النافذة والأثرياء. في تلك الأمكنة الظليلة التي يخيم عليها الهدوء والمهابة.
في اللحظة التي يحين فيها موعد تناول الوجبات كنت رفقة أصدقائي من العمال والمنبوذين نستمع لأغاني الراي، نضع أكواب الشاي أمامنا ونشرب في أثناء التدخين بأجسادنا السمراء النحيفة، ونحلم بفتاة جميلة تطل من الفيلا، أو تجلب لنا قنينة ماء باردة. مكثنا أسابيع طويلة، لم يأت الماء، ولم تطل الفتاة الشقراء الجميلة المنتظرة، بل جاء مراقب قاس من العمالة بدراجته الزرقاء الصدئة راقبنا من بعيد وذهب يخبر المفتش المركزي، ذلك الأمازيغي الطويل الأنيق، علم بالخبر، لكنه لم يعاقبنا. كان ذلك أشبه بمعجزة وانتصارًا على المراقب ذي السترة الصفراء البالية، والأسنان السوداء بسبب نهم التدخين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة