محيي المسعودي
قبل أن تصل وسائل التواصل الاجتماعي السوشل ميديا (Social Media ) الى ما وصلت اليه اليوم في عالمنا العربي، كانت هناك في السعودية امرأة تحاول أن تكتب رواية من خلال شبكة التواصل الاجتماعي هذه، فإذا كانت تلك المرأة هي السعودية “رجاء الصانع” وروايتها ” بنات الرياض” الصادرة عن دار الساقي بأربع طبعات، فقد شاكست هذه الروائية بروايتها هذه الواقع الاجتماعي والثقافي، والقت الضوء على جانب من حياة المجتمع السعودي المغلق والمعقد، وكشفت للعالم البعيد عنه , بعضا من خفاياه, بأسلوب أدبي، فإن ذلك عمل جريء. وإذا كان هذا الكشف إدانة قوية للتقاليد والعقائد الدينية والاجتماعية المتطرفة التي تحكم المجتمع السعودي رغما عنه، أو بإرادته – أحيانا – نتيجة إيمانه التقليدي بها, فإن ذلك, هو الجرأة بعينها , وهو غاية كل مبدع وذي عقل منفتح . واذا كانت الرواية قد كشفت قسوة التقاليد وغلوّها الأعمى, وحطمت الشكل الأيقوني للرجل السعودي في العاصمة الرياض, وكشفت ضعفه وهزله أمام التقاليد, ونخر هذه التقاليد لعواطفه وثقافته وأفكاره, وأخرجت المرأة السعودية من “اللفّة” التي تحجب رؤية العالم لها, على حقيقتها, فإن هذا هو الجهاد الأدبي والفكري والأخلاقي العملي، لا ذلك الجهاد الذي يقطّع الرؤوس ويفجر الأبرياء في الأسواق والشوارع والبيوت، كالذي أنتجته الثقافة الدينية السعودية خلال القرن المنصرم, ولمّا يزل حتى دخل المجتمع السعودي فجأة عالم الانفتاح حد التعري قبل سنة، وهذا هو ما كان يحسبه المعنيون بالأدب الروائي, والثقافة عامة, جرأة ونجاحا للكاتبة السعودية رجاء الصانع . وإذا كان هذا، كل ما قدمته الصانع في روايتها “بنات الرياض” كما يعتقد البعض، فإن الرواية هنا لا تعدو أن تكون سردا جريئا لحيوات بطلاتها الأربع ” قمرة – سديم – ميشيل – لميس ” ومن أحبّنّ وتعلقنّ به وتعلق بهنّ وما جاورهنّ من الأحداث والأشخاص في مجتمعهنّ. وتكون الرواية عندها ضمن النسق العادي للسرد الروائي لا أكثر . وهنا تجدر الاشارة الى أن الخصائص الفنية في الرواية بقيت غائبة عن الذين تحدثوا عنها، بسبب انشغالهم بجرأة الصانع وكسرها للمحظور وكشفها للمستور، وتداولها لواقع، محرّم على الجميع كشفه، وهذا هو ما أدهش المعنيين بالأدب وغيّب تناولهم للخصائص الإبداعية والفنية للرواية، واعتقد هنا، أن هذه الخصائص “أي الإبداعية والفنية” هي الأهم, وهذ ما أريد الحديث عنه . ومن تلك الخصائص، أن الرواية ولدت من رحم إحدى أهم قنوات الاتصال الجماهيري الحديثة “media mass communication” ألا وهو – الانترنت – فاستعارت الروائية لعرض روايتها أسلوبا مختلفا تماما عن سياق الروايات العربية آنذاك وتمثل في مفصلين الاول، أنها وصلت للمتلقي من خلال الشبكة العنكبوتية – الانترنت – بطريقة الرسائل الالكترونية – الايميلات – والثاني أن المتلقي تلقاها على شكل حلقات, تماما كالمسلسل التلفزيوني . ولم تصدر بكتاب الا بعد نشرها بالطريقة المذكورة. ومن خصائص هذه الرواية أن فيها من الأبطال نوعين: النوع الأول، هنّ البنات الأربع. وهذا النوع من البطولة هو أحد أهم أركان الرواية التقليدية ولكن النوع الثاني والبطل الحقيقي كان الروائية نفسها، وهذه البطولة هي غير تقليدية وتأتي ضمن البطولة الحديثة في الكتابة والتي تعتمد السيرة موضوعا لها، ويكون الراوي فيها, عادة, هو البطل, وقد كانت الروائية بحياتها وأفكارها وما حدث لها, محور الرواية وبطلتها بلا منافس . نلمس ذلك من خلال متابعة المتلقي لرسائلها الالكترونية ولظروف وأحوال الكتابة والكاتبة وهي تدفع بنفسها الى نشر روايتها وسط ظروف صعبة وانتقادات قاسية وبحث مضنٍ عن المعلومة، إضافة لردودها على مكاتبيها الرافضين والمعجبين. وهذا الجو هو جو الرواية الحي والحقيقي، بل والمباشر والتفاعلي حينها – زمانا ومكانا – ومع كل تلك الصعوبات والعقبات . تستطيع الروائية “بطلة الرواية” أن تصمد وتواجه وتكمل روايتها بإصرار منقطع النظير، فتتفوق بعملها هذا، ليس على الروائيات الخليجيات وحسب بل، على الروائيات العربيات كافة. ذلك لأن الظروف المحيطة بها آنذاك كانت أقسى وأشد وأخطر بكثير من تلك الظروف التي تحيط بروائية “مثلا” من الكويت او البحرين او مصر او العراق او لبنان او غيرها من البلدان العربية. وهي بهذا تكون قريبة من الجيل الأول من الروائيات الانكليزيات وخاصة ” بنات برونتي” اميلي – شارلوت – وليس الروائية الفرنسية ” فرانسو ساغان ” صاحبة رواية – صباح الخير أيها الحزن – لأن الأخيرة في مجتمع منفتح ومتحضر وصاحب تاريخ عريق في الأدب والفن وحقوق الإنسان ……….
صحيح أن الرواية تبدوا عادية، بقوة تأثير أحداثها وشخوصها على القارئ العربي عامة والسعودي خاصة، ذلك لأن هذه المجتمعات تعيش ما تقوله الروائية يوميا فلا يلمس القارئ العربي الغرابة التي تدهشه ويبحث عنها في روايات وقصص جاك لندن وأجاثا كريستي ودستيوفسكي وسواهم من كتاب الإثارة والغرابة. ولكن القارئ السعودي بالمقابل يستهجن الرواية ويرفضها، لأنها تخرج عن ثقافته وتقاليده وتمس تعصبه الأعمى للتقاليد الخاطئة الموروثة التي يرى فيها شرفا له وقيما أخلاقية تخصه، وإن الحديث عنها وانتقادها يجرح ذاته المتليّفة على هضم حقوق الإنسان، وخاصة حق المرأة بالحياة والحرية والاختيار. وصحيح أيضا أن القارئ الغربي لا يجد جديدا في أسلوب الكتابة وسرد الاحداث ولكنه يندهش ويتأثر بالواقع والوقائع التي تسردها الكاتبة، لأن هذا الواقع وهذه الوقائع عادة ما ينظر اليها الغربي على أنها غير موجودة في عالمنا المعاصر. وتأتي عادة من مجتمع بدائي وغير عادل، وليس من مجتمع يعيش في القرن الواحد والعشرين، ويمتلك أكبر احتياطي للطاقة في العالم. كل هذا صحيح ولكن تبقى الرواية محكومة بمقاييس النقد الأدبي وسلّمه المعروف، المتمثل بالحبكة والزمان والمكان والعقدة والحل. كل هذه العناصر توفرت في الرواية. ولكن، الزمان كان زمانين، وبشكل عمودي وأفقي. زمان وقوع أحداث أبطال الرواية وزمان كتابة الرواية وبطلتها الكاتبة كما اوضحنا سابقا. والمكان كان مكانين أيضا، الأول هي الأماكن التي وقعت فيها الأحداث التقليدية للرواية والمكان الثاني كان الأثير “الانترنت” الذي تحدثت منه بطلة الرواية، الكاتبة رجاء الصانع. الحبكة كانت حبكتين أيضا، وكالعادة الحبكة التقليدية ثم الاستثنائية، والأخيرة هي حكاية الروائية عن نفسها. والعقدة أيضا، كانت كذلك، عقدتين، الأولى حال بنات الرياض والثانية حال الكاتبة نفسها. أما الحلّ، أو النهاية الفنية للرواية، فهذا ما لا تستطيع الكاتبة إدراكه والوصول اليه لأنه ليس متعلقا فيها وحسب، ما دامت تكتب واقعا معاصرا لم ينته بعد ولا تملك أن تنهيه حسب رؤيتها. وهناك خاصية فنية أخرى تفردت بها الرواية، عادة لا تستطيع الآداب ولا حتى الإعلام بلوغها “ما عدى الصحافة الالكترونية” . وهذه الخاصية هي رجع الصدى كما يُسمى في الاعلام أو ما يُسمى بالأدب التفاعلي، فإذا لا حظنا أن كتابة الرواية جاءت على شكل حلقات ومن خلال الانترنت، وإن الروائية كانت تتلقى الردود، ندرك انها كانت تتأثر بالردود – رجع الصدى – وهنا تكون الرواية قد حققت ما لم تحققه رواية قبلها من استيعاب آراء القراء وأفكارهم وانتقاداتهم ومديحهم وتصحيح بطلات الرواية للروائية لما قد تقع فيه من أخطاء أثناء السرد لحيواتهن. وهذا لعمري هو الأدب التفاعلي بعينه. وبهذه الرواية تلتحق الكاتبة رجاء عبد الله الصانع بمواطناتها، مثل، الروائية زينب حفني وسميرة خاشقجي، ورجاء عالم، وأمل شطا، وصفية عنبر. وبالروائيات الخليجيات الأخريات مثل ليلى العثمان من الكويت ودلال خليفة من قطر وفوزية رشيد من البحرين. وإذا عدنا إلى الستينييات حتى الثمانينيات نجد الصانع تلتحق بأسماء معروفة في عالم الأدب والرواية الخليجية، فهناك سميرة خاشقجي، وهدى الرشيد، وهند باغفار، ورجاء عالم، ونورة الغامدي، ومها الفيصل، وندى أبو علي، وغيرهن الكثيرات. ولكن رجاء الصانع تظل صاحبة الخطوة الأجرأ في الرواية السعودية والخليجية، لا مقايسة بمن سبقنها من الروائيات بل بمجايلاتها اللواتي حاولن الكتابة على هدي روايتها “بنات الرياض” ولكنهن لم يبلغن من الشهرة والتأثير في المجتمع ما بلغته الصانع.