محمد جبير
في الرواية قدّم عزيز الشخصية المستقلّة (الساردة التي تكلّم نفسها بدون مستمع غيرها) ضمن تيار الوعي الباطني الحقّ، في جمل مباشرة، مقلّصة إلى أدنى درجات البنية الصرفية، إذ سجّل ما لا يمكن الدخول في مجال القول في كلام الشخصية الباطنية، فضمير المتكلّم في هذه الحالة لا يعكس فقط الأفكار والكلمات، بل يعكس أيضًا كلّ ما يخرج عن مجال الفعل والحواسّ من بصر، وشمّ، وسمع، ولمس:
(أعتقد أنّ الكلمات بدأت تتسرب من دون إذني، لا يمكنني إيقافها) ص39
(أعرف أن صمتك هذا مجرد دعوة للاسترسال، كي لا تقطع تداعي أفكاري) ص40
الشخصية الساردة في الرواية متعدّدة الأصوات، فهو صوت لوعيه الباطني وصوت لزوجته ومواقفها وأفكارها وصوت النصّ في بنائه الهندسي الثلاثي.
( لن تلتفت، حين سحلوها، لم تنظر النظرة الأخيرة، أظنّها خافت أن تفضح النظرة سرّنا) ص53
صوت سهام وقراءة تفكيرها الباطني.
(سهام تملك نفسها إلى حدّ أعجز عن فهمها) ص52
صوت السارد وتفكيره الباطني.
(أشعر بالمسؤولية إزاء كلّ شيء، أنا العالم وأنا خرابه، اعترافاتي هذه خطأ فادح، كان يجب أن لا أسرد حكاية الاغتصاب، هل تعرف ما معنى توثيق الحكاية في قصّة) ص102
صوت النصّ والاعتراف.
ظل عزيز حاضرًا هنا بين التبئير الداخلي والتبئير الخارجي عن طريق تخير الأفكار التي يضفيها على بطله (السارد)، وبين تيار الوعي الباطني الذي يمتنع فيه الكاتب عن أيّ اصطفاء، ليترك بطله يسرد، سرد باطني واحد يؤثّث بنية العمل الروائي على القارئ كلّ ما يرد على ذهنه تسجيلًا فوريًا وتحويل السرّ إلى نصّ مكتوب، ولأنّها لا تجد من تتوجّه إليه بحديثها، وأيًا ما تكن فالثابت أنّ عزيز بحث عن شخصية تتحدّث إلى نفسها، ما يعني تراجيديًا عدم التواصل وهذا الرابط الأساسي بين العنوان والشخصية الساردة.
تيار الوعي الباطني للشخصية ساهم في التعرّف على النصّ الروائي من خلال أفكاره ورؤيته للعالَم، والتوجّه إلى المتخيّل الذي كان حاضرًا، كما في مشهد اغتصاب الزوجة على السرير، له دلالة رمزية في إعطاء البعد الروائي للحدث التاريخي.
(جسمها الذي ظلّ محتفظًا بقماش الثوب، أما ما تبقّى فقد قشّروه مثل موزة، الحزام يربط فمها، مثل عنان فرس، يجلس على ظهرها أحدهم، فيما يقف الآخرون خلفها، ولجوها بالتناوب) ص34
الحدث التاريخي الذي تعرّضت له شريحة واسعة من المجتمع العراقي، وهم الأكراد الفيلية باعتبارهم تبعية إيرانية، ورمزية المتخيّل لما حصل لهم خصوصًا النساء من عمليات اغتصاب على الحدود العراقية الإيرانية، وقتل الشباب، وموت كبار السنّ نتيجة السير مسافات طويلة أو الانتظار على الحدود، نقلها عزيز برمزية واقعية، في بعدها الهندسي الثلاثي (الاغتصاب/ القتل/ التهجير)، فكان المتخيّل هو الرمز المصغّر للحدث الكبير، لقد منح الكاتب الخيال أدوارًا مهمّة في مجال الذاكرة والاعتراف، وحضر بقوة منذ البداية إلى الخاتمة، فساعد التعويل على المتخيّل في تمثّله للواقع بصورة مختلفة، وأحدث المنعطف في تيار الوعي الباطني بالتفكير في الممكن، وعلاقته بالواقع والعوالم الممكنة، باعتباره الموضوع الذي يسمح بتتبّع وحدة المسار التاريخي في الرواية، وهو يؤدّي وظيفة تسمح بالتحوّل من النقل التاريخي إلى بناء نصّ سردي روائي، من خلال الاهتمام في معنى السرد، وأهميته للحبكة التاريخية، وتسليط الضوء على حقيقية تاريخية، واللجوء إلى فنّ السرد من أجل التمييز بين والنصّ والحدث التاريخي المنقول، غير أنّ الأهمّ هو تحديد طبيعة السارد، والاستفادة الكاملة من المتخيّل من الرجّة التي يحدثها في النصّ الروائي.
من خصائص البنية السردية في هذا النوع من النصوص الروائية هو تجنّب البلاغة والصياغة المنمّقة، وترك المجال لخطاب مخروم، تتخلّله تناقضات وتقطّعات وارتدادات، وكلّ ما يصور اشتغال الذهن وقت التفكير، لا سيما في اللحظات المتأزمة، حيث تفقد الأفكار ترابطها وانسجامها، وينوب عنها ما يشبه الهذيان الخارجي أو الهلوسة الداخلية، والكاتب إذ يقدّم للقارئ رؤيته للعالم الخارجي من خلال الغوص في أعماق الشخصية، كون تبئير النصّ مشكلاً داخليًا ضمن تيار الوعي الباطني، فجاءت جملة النصّ الروائي من أحاديث مفردة منغلقة على نفسها، لا وجود لحوار فيها، حيث إنّ السارد يتحدّث وحده طيّ جوانحه، فكان تركيز الكاتب على هذه التقنية، بجعل الشخصية قانعة بالتفكير في حاضرها، وتتأمّل ما مضى من حياتها، والتطلّع إلى مستقبلها، ولكنّها تمتنع عن الفعل، والعمل على تغيير الواقع الذي تعيشه، أو تكون محبطة، عاجزة عن القيام بأيّ دور، فضلًا عن ذلك، إنّ التشظّي وعدم الانسجام وتفتّت حبل رابط تجعل مقروئيتها عسيرة، واعتمادها غير مأمون العواقب، إلّا لمن يعرف كيف يوازن بين مستويات الخطاب بما يجري؛ غير أنّ هذا النوع من السرد يحظر على نفسه، من حيث المبدأ، تحديد الحدث على طريقة الرواية الكلاسيكية، لكون القارئ وُضع منذ البداية داخل ذهن الشخصية الرئيسة.
بقي أن نقول إنّه يستحيل في الواقع نقل كلّ ما يدور في ذهن شخص ما بدقّة وأمانة، وتصوير تشكّل أفكاره في انسيابها أو ترددها أو تفرّعها أو تشوّشها بدون متخيّل، وتلك ميزة أخرى من الميزات عديدة يستحوذ عليها الفكر الباطني في مجمل الرواية، وإنّ كلّ قارئ يفهم بمستوى مختلف بحسب عمق فهمه، وهناك أربعة مستويات:
- المستوى الأول الخارجي.
- المستوى الثاني الباطني.
- المستوى الثالث باطن الباطن.
- المستوى الرابع العمق.
(طاعن في السرّ) رواية سرد باطني، كونها بالأساس سردية تروي تشكّل الحدث ومساره، ومقتفية تتابع ذلك الحدث وأسبابه، أي كلّ العوامل الخارجية، وكلّ مدرَكات الشخصية التي تساهم في تجلّي ذلك الحدث وتطوّره، في تيار الوعي والنفسي الذي يقوم على سرد باطني واحـد يؤثّـث بنيـة العمل الروائيّ.