« منفى للرجل الماكر» ..
علوان السلمان
النص السردي صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو نتاج الوجود الاجتماعي.. وسيلته اللغة وغايته الاسهام في بناء الانسان..اذ يتحول فيه المستهلك(المتلقي) الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل دلالة الابداع..
وباستحضار النص الروائي(منفى للرجل الماكر) الذي نسجت عوالمه الرقمية بجزئيه حيث الخوض في عوالم القرية (المكانية) والمتغيرات (الزمانية).. انامل منتجه الدكتور صبري حمد خاطر واسهمت انوار دجلة في نشره وانتشاره/ 2021.. كون السرد فيه يستمد نبضه من الوجود الاجتماعي باقتناص المعنى الواقعي واعتماد البنيات التكوينية له، متمثلة في..(الحدث والشخصية والفضاء والحوار بشقيه (الموضوعي والذاتي) والزمن السردي والوصف والمنظور..)…فضلا عن غوص منتجه في اعماق الذات بقدرة مازجة ما بين التصوير الخيالي والحدث السردي،مع توظيف لغة محكية وتقنيات فنية اسهمت في تحريك السرد وتناميه.. من خلال توخي الايجاز وعمق المعنى الكاشف عن تصوراته واحتواء عوالمه وتفاعله معها بشكل فني جاذب..
(سأله حسين الطويل بصوت مبحوح ذات السؤال:لم يجب احمد السندان..ظل صامتا…يحاول ان يخبىء راسه كانه ينتظر ضربة فأس على رقبته كي يتدحرج هذا الرأس الثقيل على العتبات…صمت لا يمكن تفسيره في مثل هذا الموقف..لم يصدر عنه بكاء او نشيج..ساكن كانما حولته عيون ميدوزا الى تمثال من الحجر..عندما عجز حسين الطويل من سؤاله…تقدم آخر ثم آخر بالسؤال ولكن احمد السندان ظل صامتا لا ينطق ابدا..حتى ان احدهم بدأ يهزه كما يهز شجرة يابسة..وآخر يمسك يده يتحسس نبضه..ويقول انه رجل حي ولكنه لا يتكلم..تركه حسين الطويل والتفت الى خديجة التي اختلط صراخها بصراخ من حولها..ونادى بصوته الجهوري العميق: ماذا حصل ياخديجة؟ فأذا بخديجة تتلوى..تمسك بشعرها كانها تروم ان تقلعه من راسها وتجيب وهي تنوح: رجعت للدار..وما لقيت الدار..لقيت الاولاد مقتولين..وما ادري ما الذي صار..ما ادري ما الذي صار..ما ادري..ما ادري..)ص14ـ ص15..
فالنص يعتمد اسلوبا فنيا تمثل بتوزيع الشخصيات فاصبحت كل شخصية تسيطر على جزء معين يحمل اسمها وذكرياتها ودورها في الحدث ومواقفها ازاء الشخصيات الاخرى بمقطعية تشكل مشاهدا فنية..يتطلب توزيعها الاحاطة بما يدور في وعي الشخصيات وما يدور خارجها وقد تحقق ذلك من خلال الاحداث وترابطها.. ومع ذلك ظل صوت الراوي مسيطرا منذ الانطلاقة الاولى بسطوره السردية التي تكشف عن ابعادها النفسية و الفنية والجمالية والدلالية مع تعدد الافكار وابتعاد عن المنظور الاحادي في الاسلوب واللغة ومستوى الوعي..اضافة الى تميزه بمحمولات اجتماعية وسايكولوجية واشتغال منتجه على تيمات حكائية داخل نسيجه السردي الذي تميز بتوغل المنتج (السارد) في بواطن الشخصية وتحليل افكارها والكشف عن سلوكياتها والخصائص الجمالية عبر اسلوب الحوار بشقيه الذاتي والموضوعي اللذان ينشران ظلالهما على امتداد الجسد النصي حضورا وكثافة وعمقا مضمونيا ينبثق من اعتماد منتجها الموضوعية المعرفية..فضلا عن تأكيده على المكان البؤرة الثقافية..لذا فالنص يحمل تحركاته ودلالاته المعبرة عن الحالة الشعورية والنفسية باسلوب دينامي وعمق دلالي يتداخل والسياق الجمعي بقدرته النصية المختزلة لتراكيبه الجملية باشتغال يعتمد الجزئيات وينسجها نسجا رؤيويا عبر حوارية ذاتية يخلقها المنتج لتكشف عن غربة مكانية..اضافة الى استحضار الحدث مع توظيف بعض التقنيات الفنية كالرمز(ميدوزا) التي يعمل منها والسندان توليفا فنيا يعكس بعض جوانب الشخصية .. والتنقيط النص الصامت والحركة الفنية التشكيلية التي تستدعي المستهلك(المتلقي) لملء فراغاته..وهناك اسلوب التكرار الدال على التوكيد والمتمكن من احداث هزة انفعالية لدى المتلقي.. فضلا عن اضفائه دلالات فنية ونفسية من خلال توظيف المثل(النملة عندما يريد الله ان تموت سريعا يجعل لها جناحين فتطير)ص141..والسؤال الذي يسهم جوابه في اتساع مديات النص والكشف عن ازمة نفسية ذاتية مقترنة بواقع مأزوم..
(قالت:مابك؟لماذا ذهبت الى بيت امك ولم تأت الى بيتك؟
قلت وانا اسيطر على مشاعري تماما:وهل هذا بيتي؟ انه بيتك..
قالت وغلالة من الشك ظهرت في وجهها:بيتي هو بيتك ما الفرق بيننا؟
قلت بهدوء:اتركي هذا الموضوع..وقولي:ماذا تعرفين عن احمد السندان؟
جفلت وتراجعت الى الوراء اكثر..حدقت في وجهي بنظرات حادة كأنها كانت تنفث نارا..قالت:ما هذا السؤال عن رجل مات..انه احمد جاسم حسن..من شدة حبه للقرية لقب نفسه بالسندان.. قلت وانا اشعر بشجاعة غير عادية:هل هذا كل ما تعرفينه عنه؟..كان زوجي الله يرحمه..ثم قتل اولاده امام عينيه.. هنا وصلت الى النقطة الحرجة التي لابد ان اطلق عليها سهم الحقيقة:هل هم اولاده؟
اهتز جسد خديجة..ضربت على الارض برجلها كأنها تستعد للهجوم علي..لم اكن ابالي..شجاعة حلت في جسدي مصدرها القلق والتفكير والالم كل ذلك انصب في بوتقة واحدة..قلت:سألتك..لم تجيبي..قالت: نعم اولاده..هل يوجد شك حتى تسألني مثل هذا السؤال؟..هنا وجدت الفرصة مناسبة لان اقول شيئا على انه حقيقة حتى لو كان يطوقه الشك..ان اكذب قليلا..فهي وسيلة يبدو اني تعودت عليها..قلت: اسمعي..انا تاكدت من الطبيب الذي كان يعالج احمد السندان انه لا ينجب..)ص304ـ ص305..
فالنص يتميز بمحمولاته الاجتماعية والنفسية واشتغال منتجه(السارد) على تيمات حكائية متعددة داخل نسيجه السردي فخلق عالما مليئا بالمفارقات المتشابكة التي تقوم على المتناقضات المتصارعة بحركة دينامية بانفتاحها على واقع متعدد الشرائح الاجتماعية باعتماد الاسلوب السيمي المشهدي في انتزاع اللحظة وتسجيلها مع عناية متناهية في توثيقها وطريقة توزيع مناخاتها حتى صار عنصر الحركة يشكل احد معطيات المستوى الحسي للغة التي توظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي المنبعث من حدث تؤطره معايير فنية على المستوى الموضوعي والذاتي على امتداد الهاجس النفسي المشكل للمشهد من خلال تداعي الزمن في الذاكرة مع توظيف الحوار الذي هو (نمط من التواصل القائم على اساس التبادل والتعاقب على الارسال والاستلام) بشقيه الذاتي (المونولوجي) والموضوعي (الواقعي) بسمة مشهدية تعبر عن مظاهر الصراع الفكري..
من كل هذا نستنتج ان المنتج(السارد) قدم نصا تميز بتعدد الشخوص فانتمى الى جنس الرواية البولوفينية،مع تعدد الرواة فـهناك الراوي السارد والراوي العليم المنتج.. مع توظيف تقنيات فنية واسلوبية كتقنية الاسترجاع والاستباق واسلوب الوصف والحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) للكشف عن دخيلة الشخصية..اضافة الى العناصر الروائية (الحدث والشخصية والزمان والمكان المغلق والمفتوح) لتقديم نص ابداعي توثيقي يستفز المتلقي ويثيرالاسئلة.. فكشف عن تجربة وجدانية سابحة بين عمق الرؤية وجمال التشكيل..مع تنوع البناء السردي القائم على تيمات حكائية منتزعة من الواقع الاجتماعي
وصراعاته ، فرسم بذلك فضاءً غير محدود وعالما مكتظا بالمفارقات المتشابكة.. ابتداء من العنوان العلامة السيميائية التي شكلت على مستوى الدال نسقا لغويا ونافذة رؤيوية منحت المستهلك(المتلقي) وعيا مضافا بما يحمله من طاقة ايحائية تشده للولوج في عوالم النص وسبر اغواره واستنطاقه من اجل حل شفراته…