من اوراق المؤتمر الفكري لمهرجان المسرح الدولي
أ.د. باسم الاعسم :
لقد ادرك – عن وعي – مؤلف مسرحية (الحر الرياحي) الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد , فاعلية السياقات الصوتية و الصورية في احكام بنية النص الدرامي , و لا أعني بالسياقات ذلك التراكم الكمي العشوائي للكلم , أو الحوار , و إنما طبيعة إستعمال إمكانات اللغة الرامزة و المشبعة بالرؤى المكتنزة , من دون فصلها عن الوجود الموضوعي , الذي يشير ضمناً الى البينة الزمكانية ..إنها تلك اللغة المائجة , الخافقة كما وصفها جبرا ابراهيم جبرا, و تلك هي اللغة البصرية الممسرحة , الحافلة بالصور و المجازات و الشعرية الآسرة ,التي اجتذبت المخرجين .
على وفق هذا المنظور البنيوي، تفعل السياقات الصوتية و الصورية، التي هي أهم سياقات الخطاب المسرحي , فعلها المؤثر في إنتاج الصورة المشهدية الصادمة , و إظهار مدلولاتها المضمرة , بوصفها رؤى فينة و جمالية , كما حدث ذلك في عرض المسرحية قبل أكثر من ربع قرن برؤية إخراجية تجديدية و تجريدية واضحة .
لذلك يفجر المؤلف الحوار الدرامي , كيما يكون أنجع الوسائل النفسية و التواصلية في المسرحية الشعرية خاصة , ثم يأتي المخرج لينقب عما وراء الحوار من فلسفات و رؤى و أفكار , فيمسرحها بما تجود به مخيلته الجامحة , الباذخة , بإتجاه صياغة عرض مسرحي تتشابك فيه جمالياً أفعال التمسرح , و إسقاطها على طبيعة الحدث بأبعاده التأريخية و الواقعية و السياسية في , منأى عن المقاربة التقليدية ذات البعد التشخيصي الذي يعول على الايهام في انتاج الصورة المشهدية .
وببراعة المخرج المقتدر في إنتاج المشاهد المزدانة بالقلق , الهواجس و الصمت البليغ , تبدأ حكاية العرض المسرحي التجريبي , بافعالة المتوثبة , و المتشحة بميكانزمات الاداء التعبيري المتقن , و الذي كانت اجساد الممثلين أداة المخرج في نحت الميزانسينات المتنوعة ضمن فضاء مسرحي مقتصد بعلاماته السيميائية , من دون الاسراف الذي يثقل كاهل الفضاء و الخشبة على حد سواء .
ويعد إختيار المخرج كريم رشيد لعرض مسرحية الحر الرياحي و تقديمها على منصة المسرح الوطني قبل 27 عاما , حدثاً مسرحياً و ثقافياً و فنياً لا يستهان به , فالنص ممنوع وإخراجه مجازفة لا يحمد عقباها , لكن المخرج الكفء , و القلق كريم رشيد , قد قطف ثمار مجازفته , فمسرحها بحسب رؤاه التجريبية المعتملة في ذهنه , و التي إرتقت بالنص الشعري التراجيدي , على وفق مقاربة إخراجية مغايرة , إذ تفتح الستارة لتكشف عن أجساد طريحة ملقاة على الخشبة تتلوى كأنها تختصر مشهد الطف , و ثمة سينوغرافيا تعم فضاء العرض بنحو تجريدي تضمنت إطارات خشبية معلقة لها دلالات شتى تقابلها على سطح الخشبة , الدلاء الفارغة , و قد عولجت برؤية مخرج بعث الحياة فيها , عبر تحولاتها الدلالية , بوصفها علامات متحركة تحكمها الرؤى المتقاطعة , و الشخصيات المتناقضة , ضمن عرض مثخن بالهواجس , و الاهات و صرخات الخلاص , و كأنما المسرح بحر قد سجر من فرط سخونة الحدث , و تراجيديته , و الشخصيات امواج متلاطمة التي عولجت بمهارة جمالية آسرة , و تلك أولى الخطى النابهة , إذ أمسك المخرج بأنفاس المتلقين منذ البدء , عبر تحكمه المائز , و إشتغاله على التوافق بين التشكيل البصري والتكوينات الفنية للممثلين , و بين الثقل الفكري و الفلسفي للنص , مما يؤكد نأي المخرج عن إستعمال الادوات و السياقات المألوفة في العروض المسرحية المنهكة , التي تستدر عواطف المتلقين ببلادة .
لقد أباح المخرج كريم رشيد لنفسة حرية التصرف بالنص , فحذف الفصل الثالث , ليكتنز النص نفسه , مع الحفاظ على قيمته الدرامية و فكرته الرئيسية , على وفق معالجة إخراجية نأت عن إستعمال الخامات , و الاكسسوارات الدالة على الحرب , كالسيوف و الطبول و صهيل الخيول و سوى ذلك , فأقتصد بالأدوات والعلامات المتحررة من سياقاتها الواقعية , كما و إجتهد في إضافة جوقة النساء المتلفعات بالأكفان كناية عن العباءات و جوقة الرجال , و شدد على رسم نهاية الشمر , التي اختتم بها العرض , حيث إنتصار الجمال على القبح , و الفضيلة على الرذيلة , فيستحيل الشمر الى قمامة يرمي عليه الممثلون الاطارات الفارغة من الصور لتذكر المتلقين بأن الشمر لاصورة له و لا تاريخ سوى الجرم , و القبح , و الخسة , في ما يأتلق الحق ممثلاً بالحسين عليه السلام , ذا الحضور المباشر و غير المباشر , و كذلك تسامي أفعال الجوقة أنصار الحق الذين يحاكمون الشمر على فعلته الخسيسة .
و هكذا ينجز العرض، و يحقق فرادته، عبر مسرحة الرؤى بإزاء الاشتغال الماهر على الثنائيات المتضادة، و المتقابلة , الصمت , الصراخ , الحسين (عليه السلام) , الشمر , الاطارات المجردة من الصور , الدلاء الفارغة , جوقة النساء , جوقة الرجال , الجمال , القبح …الخ .
ولقد أتحف العرض بطاقات أدائية متقنة جملت العرض باداءاتها التعبيرية المنضبطة أمثال الفنانين سامي الحصناوي بدور الشمر وضياء كريم بدور الحر ومحمد حسين حبيب بدور يوحنا المعمدان وسلام الاعرجي بدور الشيخ والممثلون المساندون المقتدرون أحمد انغيمش وطلبة كلية التربية الفنية في جامعة بابل.