محمود عبد الغني
يمكن للأدب أن يكون سياسيًا، هذه الأطروحة هي شعبة من دراسة لجاك رانسيير موسومة بـ»سياسة الأدب»، حيث أوضح في قسم خاص من الكتاب سمّاه «فرضيات»، أن سياسة الأدب ليست سياسة الكُتّاب. فهي «لا تتعلق بالتزاماتهم الشخصية في صراعات عصرهم السياسية والاجتماعية. كما أنها لا تتعلّق بالطريقة التي يصوّرون بها البنيات الاجتماعية والحركات السياسية أو الهويات المتنوّعة في كتبهم. إن تعبير «سياسة الأدب» يعني أن الأدب يمارس السياسة بوصفه أدبًا».
سؤالي هو: كيف مارس الأدب السياسة بوصفه أدبًا؟ وإن اقتصاري على سؤال من هذا الصنف كافٍ للوقوف على خصائص أدباء من عصر الحروب، مثلما ظهر تمامًا في فرنسا القرن الثامن عشر سياسيون من عصر الأدب، يقف في مقدّمتهم المؤرخ الفرنسي جيل ميشلي. إن «في عصر الأدب تتكلّم الأشياء البكماءُ أفضل من الخطباء الجمهوريين»- حسب تعبير جاك رانسيير. فهل من حقّنا التساؤل: هل في عصر الحروب تتكلّم الأشياء بصوت يعلو على صوت الأدب؟
تقف السياسة وراء العديد من الروايات والأشعار والمسرحيات واللوحات الفنية. تقف وراء كل شيء تقريبًا، إذا ما تفحصنا حياتنا جيدًا، وإذا ما نزلنا إلى أعماق أدمغتنا التي لا تهدأ من التفكير في كل شيء.
قال أرسطو إن البشر مخلوقات سياسية نظرًا لكونهم يتمتّعون بميزة الحديث عن الظلم والعدل، بينما لا تملك الحيوانات سوى الصوت الذي يعبّر عن اللذة أو الألم. ويؤوّل جاك رانسيير كلام أرسطو إلى كون النشاط السياسي كله هو صراعٌ من أجل تحديد ما هو كلام وما هو صراخ. بين مجموعة تفكر في عالم مشترك وبين حيوانات هائجة أو متوجّعة. إننا أمام تقسيم جديد للمواقع والهويات والكلام. إنه «تقاسم لعالم محسوس» يعمل النشاط السياسي على إعادة صياغته، «فيضمُّ إلى ما هو عالمٌ أغراضًا جديدة وأفرادًا آخرين، ويجعل مرئيًا ما لم يكن كذلك ومسموعًا ككلام كائنات ناطقة ما لم يكن يُعتبر إلا صخب حيوانات صاخبة». إن هذا المنطلق يوضح جيدًا معنى مفهوم «سياسة الأدب» الذي يتدخل بوصفه أدبًا في هذا التمييز بين الصخب والكلام.
يمكن ذكر العديد من الأدباء العرب جعلتهم انشغالاتهم السياسية وأيديولوجياتهم في قمة الإنتاج والتلقي: عبد الرحمن منيف، غالب هلسا، جبرا إبراهيم جبرا، غسان كنفاني، حليم بركات، إميل حبيبي، هاني الراهب، صنع الله إبراهيم، شريف حتاتة، رفعت السعيد….لكن السياسة جعلت من حالة أديب عظيم كألبير كامي حالة خاصة في هذا المجال. كيف يمكن تفسير حالة ألبير كامي؟ لقد كان في الأربعينيات والخمسينيات رمزًا من رموز الشباب الطموح إلى الثورة والتغيير في فرنسا، وها هو اليوم يثير الشفقة التي يمكن أن يثيرها أي كاتب رسمي، يحتقره القراء، وليس له حضور إلا في كتب المقرّرات الدراسية فقط. البعض فسّروا ذلك بصمت كامي، أو تصريحاته الغامضة، أمام استعمار فرنسا للجزائر، وجميع أشكال المأساة التي حدثت جراء ذلك الاستعمار. لقد بقي ممزّقًا بين قضية عادلة وبين الأقلية الفرنسية التي ولد في كنفها. فاختار الصمت.
لكن هذا التفسير لم يقنع روائيًا هو البيروفي ماريو فارغاس يوسا. فالقارئ يمكن أن يكره مواقف كاتب معيّن دون أن يكره أعماله الأدبية. فلا أحد مثلًا استطاع تفسير التغيّر السياسي لأندريه مالرو، ولا معاداة السامية للويس فرديناند سيلين، ورغم ذلك فإن أعمالهما الروائية بقيت حيّة على الدوام. من هذا المنطلق دعا روائي البيرو يوسا إلى ضرورة مراجعة المصير الأدبي لكامي.
أكّد يوسا أن النجاح الأدبي لألبير كامي ينبني على سوء فهم. فالقراء أحبّوا فيه الفيلسوف الذي، عوض كتابة دراسات جامعية، قام بتمرير فكره بتوظيفه الأجناس الأدبية الرائجة: الرواية، المسرح، الصحافة. ولكن يكفي قراءة «خطاب السويد»، و»رسائل إلى صديق ألماني»، و»الإنسان الثوري» لمعرفة فكره ولتتضح خطوط وملامح صورته الخاطئة. لكنه يبقى، رغم ذلك، أحد الكُتّاب الذين قدّموا لنا نموذج الإنسان الخائف والعبثي.
إذن، قيام كاتب بتمرير الفكر في الرواية يشكل مغامرة مزدوجة النتيجة، إما أن ينجح ويحقّق نجاحًا كبيرًا، وإما أن يفشل ويندحر، كما هي حالة ألبير كامي. وهي مغامرة ينبغي فحصها في الرواية العربية، التي يلجأ كُتّابها إلى إغنائها بأساليب وطرق عديدة. وهذا ما سنعمل على فحصه من خلال تقديم نماذج من الرواية العربية الحديثة، التي ارتبطت بالأفكار الكبرى في مجتمعاتها وتواريخها انطلاقا من مرتكز أساسي مفاده أن الروائيين اليوم يقومون بتناول الإنسان داخل محيطه التاريخي والاجتماعي.
يلج الروائي إلى المجتمع كما يلج رفائيل، بطل رواية بلزاك «الجلد المسحور». فقارئ هذه الرواية لن ينسى لحظة نزول رافائيل إلى مخزن للأثريات تختلف فيه تحفٌ وأشياء وأغراض من عصور وحضارات مختلفة. اختلطت وتجاورت أغراض فنية ودينيةٌ. أشياء ثمينة وأخرى مبتذلة. تماسيح، قرود، ثعابين، مزهريات، أبو الهول… وقد قال بلزاك إن هذا المخزن الذي تختلط فيه كل هذه الأشياء هو بمثابة قصيدة لا نهاية لها.
إنها قصيدة مزدوجة، فهي قصيدة المساواة الكبرى بين الأشياء النبيلة والمبتذلة، القديمة والحديثة، التزيينية والنافعة. إن هذا المتحف العجيب يحتوي على حقيقة الوجود المختلط. وقد أولى فيكتور هوغو لهذه المساواة أهمية كبيرة، وهو يصف مجارير باريس في رواية «البؤساء»، إذ قال عنها إنها «حفرة الحقيقة» حيث تسقط الأقنعة وتتسامى علامات السمو الاجتماعي مع نفايات الحياة المبتذَلة. فاللاتمايز هو ما يوحد بين الأشياء التي تستقر في قاع المجتمع. لكن في تلك الأشياء التي في مجارير هوغو، وفي تلك الأغراض التي في متحف بلزاك، تكمن حقيقة الشعوب وسر الأزمنة.