محمد زكي ابراهيم
تتميز الشعوب عن غيرها بما تمتلكه من قيم، تشكل بمجموعها المعنى الحقيقي للثقافة. وهي التعبير السليم عن الاختلاف. فالعلامات الفارقة ليست السحنات والأشكال فحسب، بل السلوك الإنساني، وردود الأفعال عند الرضا أو الغضب، أو الحب أو الكره. وغير ذلك من الأمور.
والقيم بذاتها مجموعة معايير، أو مبادئ يمكن عن طريقها مقاومة التحريف، والحكم على مدى سلامة الأفعال. فالفضيلة لدى شعوب ما قيمة كبرى، تقاس بمعايير صارمة مثل العفة والنزاهة والإخلاص والوفاء. لكن شعوباً أخرى لا ترى هذا الرأي. أي أن مفهوم الفضيلة يختلف من شعب لآخر، بحسب ثقافتها الخاصة.
والكثيرون منا يذمون السياسة ولا يعتقدون أن من يخوض غمارها يختزن في ذاته قدراً من النبل. فهي بنظرهم أداة من أدوات المنفعة الشخصية، ولا تحتكم إلى المبادئ التي شغفوا بها. مع أنها وجدت في الواقع لحفظ حقوق المجتمع، والسهر على إدارة شؤونه، وحماية مصالحه من العدوان الداخلي والخارجي.
ومع ذلك فإن الناس جميعاً يتوقون إلى ممارستها، ويعتقدون أنهم قادرون على إحداث فرق فيها. والحال غير ذلك، لأن الأصل فيها المساومات والصفقات والتنازلات. وهي الطرق المألوفة لانتزاع الحقوق وتسوية الخلافات. وفي أنظمة تقوم على إطلاق الحريات، وحكم الأحزاب، لا يمكن الوصول إلى حكم نهائي دون إرضاء باقي الأطراف.
وبتعبير آخر فإن النظام الديمقراطي هو نظام خال من المبادئ أو الثوابت الأخلاقية، التي عرفت عن العرب والمشارقة بوجه عام. ويسير على وفق الظروف التي تمر بها الدولة. ولا يستطيع السياسي التخلي عن السلطة من أجلها، لأن ذلك في نظره خسارة كبيرة. وقد جعل الغربيون الذين وضعوا هذا النظام وطوروه عبر القرون الأولوية للأشياء لا للمبادئ. وقدموها على الأخلاق إذا ما تعارضت معها. ونهبوا ثروات الشعوب التي احتلوها في بقاع الأرض بناءً على هذا التصور.
وقد مال الشرقيون إلى النظام الديمقراطي في النصف الثاني من القرن العشرين. وشرعوا يسوسون به شؤون حياتهم، عسى أن يرفعهم إلى مصاف الدول التي هيمنت على مقدراتهم زمناً طويلاً. بل أن ثورات كثيرة اندلعت في بلدانهم من أجل هذه الغاية. لكنهم اكتشفوا فيها الكثير من الهنات في ما بعد، وباتوا يرمون الأحزاب والزعامات بشتى التهم. ولم ينتبهوا إلى أن العلة تكمن في الخروج على المفاهيم التي تشكل جوهر ثقافتهم الوطنية، وتعذر الالتزام بها في لعبة السياسة.
إن ما يجعل الغربيين سعداء بأنظمتهم الحاكمة، غير ميالين لزعزعة استقرارها، أنهم اعتادوا على حقيقة واقعة، اسمها البراغماتية. فكل شيء لديهم مباح من أجل الثروة أو المنفعة أو المتعة. وإذا ما رغب الشرقيون، أو العرب، بالاحتفاظ بما لديهم من منظومات أخلاقية وثقافية، فلابد أن يحدثوا تغييراً في روح النظام السياسي الجديد، ويكفوا عن استنساخ التجربة الغربية. لأن ذلك يضعهم أمام تناقض شديد مع ما توارثوه من قيم ومبادئ دينية وإنسانية.