تأملات في “أرض البشر “
أميرة مصطفى محمود*
عبر عدد من الصفحات يفوق المائتي صفحة بقليل، يأخذنا “أنطوان دو سانت اكزوبيري” في جولة جوية أرضية رهيبة مفعمة بالإثارة والحركة والوهم والعطش والمعاناة والأمل والسراب والموت والحياة والإصرار والضياع والتأمل والفلسفة والحكمة والحقيقة والخلاصة، داخل كتابه العظيم: أرض البشر.. الكتاب الذي استحق عن جدارة الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية.
للوهلة الأولى أو بالأحرى.. للصفحات الأولى، بدا لي أنني لم أتخل عن طقسي الاستطلاعي.. أو ربما هو الذي لا يتخلى، والذي كان مصاحبا كذلك من قبل لبعض من الكتب العظيمة صيتًا.. والتي ما إن خضتُ فيها قراءةً فيما بعد حتى اكتشفت عظمتها بنفسي على مر الصفحات، ألا وهو: طقس الفتور والملل.
لبضع صفحات أولية، تمهيدية، لا يكاد الملل يتسرب في أثنائها إلى القارئ أو ربما إليّ خصيصا، ولم يكن ليحضني على المواصلة فيها قراءةً غير التوصيفات المبهرة والتعبيرات الملفتة الأخاذة والتي من دون شك تشي ببراعة كاتبها وتغري قارئها بمتعة وشيكة.. ومن ثم تغويه للمتابعة.
ودونما تلحظ، يستدرجك أسلوب الكاتب، وجمالية عباراته، وروعة رسمه وإخراجه للمشاهد الحبرية الواقعية الرهيبة التي كان خاضها وعاشها واختبرها بنفسه سلفا، ليلقي بك فجأة إلى داخل طائرته المتواضعة تكنولوجيا غير باهظة التقنية، لتطير بصحبته على ارتفاعات شاهقة تفوق السحاب، وتجوب الفضاءات، وتخترق الغيوم، وتعبر القارات والمحيطات في رحلات توصيل البريد. تعلق معه بالسماء في رحلات محفوفة بالمخاطر والشغف والغموض. تدخل معه إلى حانات بعيدة وتصادف فيها طيارين آخرين للمرة الأولى وربما الأخيرة، وتستمع منه إلى حكايا وأهوال عديدة تخصه أو تخصهم، ومغامرات بعضهم القاسية والمهولة والمذهلة في نفس الوقت، بينما ترشفان الشاي والقهوة أو تجرعان النبيذ، وتهب فجأة وتهرع بصحبته إلى الطائرة منطلقين بحثا عن المفقودين منهم بين الجبال والوديان. تعايشه وتعاصره في كل رحلاته المذكورة وتختبر معه قساوة الجليد وجنون السماء. يسمح لك بالدخول إلى أعماقه فيطلعك على ما يعتقد وما لا يعتقد. تكتشف لحظات إيمانه وتعرف كُنه حنينه. وكل ذلك يحدث بأسلوب ساحر خلاب لا يُفقدك لحظةً معيته وصحبته أو ينزعك من إحساس المغامرة.
والحق أن ذلك الأسلوب التعبيري الساحر، من دون أي شك، يقاسمه الفضل فيه، المترجم: مصطفى كامل فودة، ذاك الذي ببلاغته اللغوية الفائقة وحسه الفني البديع، حتما أضاف إلى النص الأصلي جمالا إلى جماله. وهو مازاد من مذاق النص بإسلوبه الخاص وتفوقه في الصياغة.. ، فحسبه أنه لم يُفقد الكتاب بترجمته شيئا من جماليته ليصل في النهاية إلى قارئه العربي بتلك الروعة والجمالية والدقة. وأقول ذلك من باب الاستحقاق لما يحدث فعليا ويصادف القارئ العربي من ترجمات رديئة غير متمكنة، لبعض الأعمال الأدبية العالمية، التي تفتقر إلى الحس الفني وربما إلى الترابط مما يدفع القارئ للنفور من كتاب جميل حقا لكنه سيء الحظ لسوء ترجمته!
وبينما أنت مستمتع بالأجواء والمغامرة واللغة معا، بشكل انسيابي متكامل إذا بك فجأة تسقط من الطائرة لتجد نفسك ضائعا مع الكاتب ورفيقه في جوف صحراء واسعة شاسعة لا أول أو آخر لرمالها وظمأها وعذابها وخطرها وطغيانها حرا وبردا، في مواجهة قبائل لا يروقها غير ذبح الأغراب احتفاءً بهم، أو في مواجهة حية مع اللاشيء: اللا أمل، واللا رمق. تجد نفسك فجأة في مواجهة هلاكك ومصيرك المحتوم وأنت غاطس في الصُفرة اللا نهائية لا ترى على امتداد البصر غير السراب.. والنهاية.
تظل تعاني العطش حتى لا تعود تحسه وإنما تعاني آثاره.. فيجف ماؤك لا حلقك وحسب.. ولم يعد حتى لديك لعاب بفمك. ويصبح نصف برتقالة هو أعظم مسراتك، وحفنة من الندى السام الممزوج بالزيوت والطلاء المترسب على قطعة قماش خاص بالمظلات، في مرحلة ما أولية، مرفهة، هي اختيارك من الصميم. ترى بأم عينك احتضار الكاتب وتشعر بتمزق أوصاله من سياط ليل البيداء، وتشهده بينما يحفر لجسده حفرة بالرمال يدفنه فيها ملاذا وغطاء. تشعر بكل معاناته، وومضات أمله الزائفة الساحقة، وهُوَّات يأسه القاتلة حتى تراه أخيرا يتمدد مستسلما بلا أدنى رمق للمقاومة.. ويالها من تجربة إنسانية قاسية مميتة لا ينجو منها إلا من كان حالفه العمر!
وبينما أنت تصاحب الكاتب في رحلة مصيرية وتعاصر كل ما واجهه من أخطار، مايشدك نحو عالمه هو عقله المتوازن وحكمته، وبحثه الدائم عن الحقيقة وراء كل شيء، وعمق فلسفاته. وإن كان من الغريب والمأخوذ على الكتاب في اعتقادي الشخصي، أن ثمة إحساس قليل متفاوت على مدار الكتاب قد ينتابك بعدم الترابط ما بين بعض الجمل رغم ما تحمله كلها من عمق فلسفي وتعبيري لافت ومبهر إلا أنه قد تشعر في أحايين قليلة جدا متفرقة بأن ثمة قفزات واسعة واقعة ما بين جملة ما وما تليها.. فكلاهما، على روعتهما، غير متصلتين كأنما تفصلهما مسافة نقلة.. غير مكتوبة!
ومن ثم تتجلى إليك العديد والعديد من الاقتباسات التي تفرض نفسها من باب الشهادة الحقة لروعة وعمق فلسفة ذلك الكتاب. ولاضير هنا الإشارة على الأقل إلى بعضها في أضيق الحدود مراعاة للمساحة البيضاء:
“بالأمس كنت أمشي بلا أمل، واليوم فقدت هذه الكلمات معناها. اليوم نمشي لأننا نمشي كالثيران ساعة الحرث. وبالأمس كنت أحلم بجنان فيها أشجار البرتقال، واليوم لم يعد هناك جنة إطلاقا، بل لم أعد أعتقد بوجود البرتقال.”
“وما جدوى مناقشة المذاهب الاجتماعية إذا كانت كلها تستطيع أن تثبت صحتها. ولكنها تتعارض كلها، وتلك المناقشات تجعلنا نيأس من إمكان خلاص الإنسان على حين أنه يُظهر نفس الحاجات في كل مكان.”
“وعدت إلى عربتي وأنا أقول لنفسي: لم يعد هؤلاء الناس يتألمون لحالهم. وليس الإحسان هو ما يقلق بالي. فليست المسألة أن نرثي لجرح ولا يلتئم، فأولئك الذين يحملون الجرح لا يحسونه. والجريح هنا هو النوع الإنساني وليس الفرد. ليس البؤس هو الذي يعذبني فإن الإنسان ينتهي إلى الرضا بذلك البؤس. وطبقات عديدة من الشرقيين تعيش في القذارة سعيدة لا يقلقها شيء. ما يعذبني هو شيء لا تشفيه مطاعم الشعب. ليس ما يعذبني هو ذلك القبح البادي. ما يعذبني هو “موتسارت” الصريع في كل فرد من هؤلاء الناس.”
*كاتبة من مصر