القسم الثاني
حاوره: سلام مكي
- عنوان الكتاب، يوحي بأنك لا تؤمن إيمانا قاطعا بفكرة الأجيال الشعرية، وقد صرحت بذلك في مقدمة الكتاب. فعبارة: النص التسعيني، ليس مرادفا للـ “الجيل التسعيني”. لأن النص التسعيني، هو النص الذي كتب في فترة التسعينيات، أما الجيل التسعيني، فهو مثار جدل، واختلاف، يقودنا الى البحث عن فكرة الأجيال الشعرية برمتها. فهل الايمان بفكرة الأجيال الشعرية، لازمة لدراسة الشعر العراقي؟ هل يمكن دراسة الشعر العراقي بعيدا عن فكرة الأجيال؟
- نعم انا لا اؤمن بفكرة الاجيال، وقد انجزت الكتاب تحت ضغط الظاهرة الفنية التي تستحق الدراسة. وفكرة أن نص التسعينيات صنعته اجيال متعددة هو احد احتمالات هذه الفكرة. فنحن نعرف جميعا أن نصوص وسام هاشم وخالد جابر يوسف وكريم شغيدل على سبيل المثال كانت اقرب لروح التسعينيات، واشير ايضا الى نصوص حميد قاسم وعبد الزهرة زكي وجواد الحطاب وطالب عبدالعزيز بمقاربتها لنصوص المعنى لا الى نصوص الدلالة، ومن قبلهم زاهر الجيزاني في “الاب في مسائه الشخصي” كذلك خزعل الماجدي في نصوصه الاخيرة، كل هذه العتبات الشعرية اذا صحت التسمية، كانت تمهد لتحولات في بنية قصيدة النثر. وبالتالي فان التحول من الدلالة الى المعنى ساهمت فيه اجيال الشعر العراقي جميعا. لكن التسعينيين كانوا الاكثر جرأة في التمسك بمعنى النص وجعله متحركا وفاعلا ومشاكسا، وبالمناسبة ليس كل التسعينيين تتمثل فيهم هذه الروح. جيل التسعينيات لم يكن موجة واحدة، هناك موجات متعددة صنعت سمات وملامح هذا الجيل، وقد اسهبت طويلا في الكتاب بفصل كامل هو سردية لتاريخ هذا الجيل وتداعياته وطريقة تعامله مع الثقافة ومع الاجيال الاخرى..
- لو افترضنا بأن فكرة التجييل العقدي مرهونة بانعطافة فكرية أو تاريخية معينة، وهو ما قد نعتبره حدث سابقا، لكن بعد 2003، كيف لنا أن نعالج الموضوع نقديا، خصوصا وأن النسق العام للحياة، لم يتغير.. إرهاب، موت، مفخخات، خطف…
- بعد العام 2003 ظهرت موجات شعرية ممتازة، تجارب فردية لا جماعية. لاوجود لسمات او ملامح مشتركة لهؤلاء الشعراء، وقد تكون علامتهم الفارقة هي اللاجيلية، وكأنهم يرفضون ابوة ما قبلهم. بعض هذه التجارب لا اب لها. لكن العديد منهم يستنسخ تجربة الثمانينيين والتسعينيين، وقد اشرت الى ذلك في كتابي الجديد “الشعرية بوصفها حياة” الى عدد منهم، وستجد فيه ان تجربتين مميزتين كصفاء خلف وهلال كوتا على سبيل المثال، يشتغلان في حفريات منطقتين شعريتين معروفتين، هلال كوتا يقارب منطقة طالب عبدالعزيز، وخلف يقارب حفريات محمد مظلوم ومحمد النصار، وهناك امثلة كثيرة لامجال لذكرها هنا. نعم يتكرر المشهد السياسي في العراق من حيث استلاب الفرد وضياعه، لكن الاجراء الشعري سيختلف من تجربة الى اخرى، وهذا بالضبط ما تريده الشعرية من تنوعٍ وتناص في الوعي بالشعرية كمفهوم ومصطلح. ما ظهر من تجارب شعرية بعد العام 2003 يلفت الانتباه كثيرا ويستحق الدراسة والبحث والمعاينة.
- هل يعتقد الشاعر والناقد علي سعدون بأن قصيدة النثر، اكتسبت مشروعيتها من التنظير أم من التراكم؟ وكيف يمكن لقصيدة النثر أن تحافظ على بريقها وصورتها الأولى، بعد أن تحولت إلى مطية، لكتاب وناصّين يدعون الشعر والشعر منهم براء؟
- اكتسبت قصيدة النثر مشروعيتها من التراكم لا من التنظيرات بلا شك، والتراكم هنا بمعنى النضج والمهارة وتعدد اجيالها وتنوع الاداء لديهم.. وحتى الذين اتخذوا موقفا مناهضا منها، تراجعوا بسبب الضغط الفني الذي مارسته نصوص مبدعة على ذائقتهم. كثيرون اليوم يؤمنون بأهمية قصيدة النثر وقدرتها على المطاولة والمنافسة لأنماط اخرى في الشعر العربي، على الرغم من المجانية التي وقع هذا النص في براثنها فاختلط الحابل بالنابل في قراءته. يمكن لهذه الفوضى في اختلاط الخاطرة البسيطة بالنص العظيم ان تتصاعد مع فسحة وسائل التواصل الالكتروني والنشر المجاني غير المنضبط في الصحف والمجلات. لكنها لن تستمر طويلا بسبب وجود الفرز النقدي والمواكبة الواعية التي تتناغم مع اهمية قصيدة النثر باعتبارها اخر الاشكال الشعرية الممتعة والتي تنطوي على اهمية بالغة بسبب من تواشجها وانفتاحها على المعرفة والفكر وقدرتها على استثمار تقانات متعددة ومختلفة. لمعان قصيدة النثر وبريقها ماثلان وشاخصان بعد مرور اكثر من اربعين عاما على ولادتها.
- كيف ينظر الاستاذ علي سعدون لمصطلحات : النص المفتوح، النص الحرج، قصيدة النص.. وهل هي امتداد لقصيدة النثر أم هي أنساق كتابية جديدة لا علاقة لها بحركة تطور الشعر العربي؟
- تتعدد المصطلحات التي تختص بالشعرية عند جاكوبسن واخرين وتختلف ايضا اختلافات حادة. مثلما تتعدد مفاهيم النص المفتوح وتتعارض في مناسبات عدة. فالنص المفتوح عند امبرتو ايكو على سبيل المثال يأخذ مدياته المتعددة في القراءة ولا يتوقف عند حدود معينة، بل ان القارئ سيعيد كتابة النص ذاته تبعا لتأثيره الشخصي على المزاج وعلى المعرفة، والمفهوم نفسه سيختلف عند التفكيكيين الذين سيرون الى انفتاح النص باعتبارات التناقض الذي ينتج عنه اشتراك القارئ في الكتابة، اي ان قراءة النص اكثر اهمية من كتابته، وهي الكتابة الحقيقية للنص الخ .. فيما يتعامل التسعينيون مع اصطلاح النص الحرج بأهمية بالغة، وسأحيلك الى بيان محمد غازي الاخرس “شعرية النص الحرج” بوصفه واحدا من تنظيرات التسعينيين التجريبية بعد بيان فرج الحطاب وعباس اليوسفي وفيه عمل الاخرس على فضّ الاشتباك بين تداخل الاجناس بضغط من الحداثة وتنظيراتها الرائجة في ذلك الحين. وقد اشرت الى ذلك بالتفصيل في كتابي الذي حاول ان لايغفل عن كل ما يتعلق بارهاصات ذلك الجيل. وسيدخل ذلك كله في تطور الاداء في الشعر العربي – نمط كتابة قصيدة النثر – على وجه التحديد.
- ألا يجد الاستاذ سعدون مفارقة نقدية، في قصيدة النثر، فهي وكما قلت في كتابك جدل النص التسعيني، أن أدونيس استقى أفكاره هو وأنسي الحاج من سوزان برنار بأن الأخيرة عرفت قصيدة النثر بأنها: قطعة نثر موجزة، بما فيه الكفاية، موحدة، مضغوطة، كقطعة من البلور.. أنها لم تقل أنها شعر أبدا.. في حين يصر أدونيس ومن جاء بعده على أنها امتداد لحركة تطور الشعر العربي وأنها موازية لقصيدة التفعيلة؟
- نعم . يوسف الخال وادونيس بصورة اكبر، كانا قد اخذا من سوزان بيرنار تنظيراتهما الاولى عن قصيدة النثر، وطورا بعد ذلك مفاهيمهما بالتجربة والتراكم المعرفي. لكن ادونيس سيعترف بعد ذلك بسنوات بانه اغفل الاشارة عن الجذر العربي لتلك القصيدة المبهرة، وانه اخطأ عندما وسمها بالجذر الفرنسي فقط، وبالتأكيد هي نتاج تطور النثر العربي الذي تصاعد اواره على مر القرون فامتزج بالشعر من خلال البلاغة والمجاز والاستعارة.. وعليه فان امتداد قصيدة النثر الى الارث البلاغي العربي سيعود الى تطور الشعر العربي نفسه، وسيجيئ بعدّة معرفية رافقت ما انجز منها كتجارب مميزة ولافتة مقرونة بتنظيرات لم تتوقف عند ادونيس وحده، بل تعدته الى تجارب عربية اخرى وعراقية ايضا.. طروحات بيرنار لم تحيد عن اعتبار قصيدة النثر شعرا.. يكفي انها تحدثت عنها بوصفها قصيدة لا بوصفها نثرا وحسب. واعتقد جازما ان توصيفاتها التي اسبغتها على ذلك النص هي التي تسبب بالالتباس، كمثل توصيفها بمجانية النص وعدم قابليته للانتظام في شكل محدد، اعني ان كل قصيدة تأخذ شكلها من مضمونها على حد تعبيرها.. طروحات بيرنار المهمة سينشغل بها شعراء قصيدة النثر بالتركيز على انها نص مضغوط ومكثّف ولديه القدرة على الايجاز واستثمار المعارف.