شادي لويس
في كتابه الاستثنائي “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”، أسس فارنز فانون بنية تحليلية راديكالية لقراءة النص الأدبي الغربي، مركزاً على الطرائق التي ترسم به صورة الآخر، وثنائياتها المختزلة: أبيض/أسود، مسيحي/وثني، متحضر/همجي، وغيرها. لكن إنجاز فانون الأهم كان في إدراكه للآليات التي يتم عبرها ترسيخ التصورات الغربية عن الآخر، لتضحي تصورات الآخر عن نفسه أيضاً، آليات مؤسسة على العنف، مادياً ومعنوياً، تنتج عنها مركزة لزاوية النظر الغربية والمتعالية، لا بوصفها المرجعية المعتمدة فحسب، بل الطريقة الوحيدة لرؤية العالم.
في مقاله “درس الروايات العظيمة عن الجائحة” المنشور في جريدة “ليبراسيون” الفرنسية، مطلع الشهر، يقدم الروائي التركي، اورهان باموق، نموذجاً كلاسيكياً للاستشراق الذاتي، ولصورة الآخر عن نفسه بحسب فانون. يعقد الكاتب التركي الحاصل على جائزة نوبل 2006، مقارنة تاريخية بين المسلمين والمسيحيين، من حيث ردود أفعالهم تجاه الوباء. ولا حاجة لبذل جهد كبير لإدراك قدر الاختزال الفادح في تلك الثنائية المخزية، والتي يعتمد الكاتب على ما يماثلها من ثنائيات لتأسيس سردية الكثير من رواياته. يخبرنا باموق ببساطة في مقاله: “يمكن تأكيدُ أمرٍ واحد: تاريخيًّا، كان من الصعب دائمًا إقناع المسلمين بالامتثال لإجراءات الحجر الصحّي خلال أزمنة الوباء، على خلاف المسيحيين”. لكن كيف يصل باموق إلى تلك النتيجة التي يتمحور حولها مقاله كله؟ بالبساطة نفسها، يعتمد الكاتب بشكل شبه مطلق، على كلاسيكيات أدبية أوروبية بالكامل، “يوميات عام الطاعون” لدانيال ديفو، ورواية “المخطوبون” للكاتب الإيطالي أليساندرو مانزوني، و”الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي. مركزية النص الأوروبي لدى باموق لا تحتاج لتدليل بالطبع، فهو لا يستطيع أن يتخيل رؤية المسلمين أو العثمانيين بعيونهم. فبين مئات وربما آلاف المصادر الأدبية والإدارية عن الأوبئة، بعشرات اللغات، خلال قرون السلطنة العثمانية الطويلة وفي أراضيها الشاسعة، لا يجد الكاتب مصدراً واحداً يناسبه للاستشهاد، فيلجأ إلي كاتب أوروبي آخر، أوجير غيزلين دي بوسبيك، سفير إمبراطورية هابسبورغ إلى الإمبراطورية العثمانية في عهد سليمان القانوني، الذي شهد انتشار الطاعون في إستنبول، ليخبرنا بأن “دين الأتراك، الإسلام، يدفعهم إلى أن يكونوا قدريين”.
يحاول باموق أن يبدو موضوعياً ويتشكك في الطبيعة القدَرية للمسلمين، لكنه يندفع في سلسلة من أخطاء الجهل التاريخي والتصورات الممسوخة عن الآخر غير الغربي، مستعيناً باقتباس من “الجريمة والعقاب” عن “الطاعون المصري”، ليخبرنا أن الحدود السياسية للسلطة العثمانية، بوصفها “بداية العالم خارج أوروبا” هي الطاعون. لا يرى باموق، العالم، سوى عبر الثنائية نفسها، “داخل” أو “خارج” أوروبا بالطبع. أما مقولة “الطاعون المصري” التي يستخدمها لفهم خريطة العالم خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما يقول، فليست سوى مقولة غيبية تعود للكتاب المقدس، حيث ترسخ في المخيلة الغربية بشكل شبه خرافي، أن أصل الطاعون يعود إلى ضربات موسى العشر على فرعون مصر، بحسب العهد القديم.
ولا يتوقف المقال هنا، بل يتابع مراكمة الأخطاء التاريخية، الواحد فوق الآخر، ليخبرنا بأن البريطانيين أقاموا في الإسكندرية أكبر مكتب للحجر الصحي في العالم، مطلع القرن التاسع عشر، حيث “ثبت أنّ الحجّاج القادمين من الأماكن المقدّسة في مكة والمدينة هم أكثر من كانوا يجلبون أمراضًا مُعدية من كلّ نوع”. ولا يعرف الكاتب بالطبع أن ممارسة الحجر الصحي في الإسكندرية تعود إلى ما قبل البريطانيين بمئات الأعوام، فوق الألف على الأقل، وأن بريطانيا تحديداً، حاربت منظومة الحجر الصحي التي فرضها محمد علي في الإسكندرية والموانئ الأخرى، أكثر من مرة، ومارست ضغوطاً لدى الباب العالي لإرغام الباشا على رفعه، فغير إن الحجر الصحي كان مضراً بحركة التجارة والمصالح الأوروبية، فقد كان أيضاً في نظر البريطانيين غير ضروري.
كانت تلك أيضاً وجهة نظر “كلوت بيك”، الطبيب الفرنسي الذي ترأس المنظومة الصحية المصرية حينها. فهو كان يؤمن، كالكثير من الأطباء الأوروبيين حينها، بأن الأوبئة لا تنتقل بالعدوى. ويعلق المؤرخ الأميركي، شلدون واتس، على هذا كله، بأن إصرار محمد علي كان مؤسساً على تراث طويل من قواعد الحجر الصحي في النص الإسلامي وممارسات السلطنة العثمانية. لكن ذلك التراث الثري والمعقد، المكتوب بمئات اللغات على مدى أربعة عشر قرناً من تاريخ الإسلام في بقعة شاسعة من العالم، لا يبدو أن باموق قد انشغل بالاطلاع عليه على الإطلاق، ولا أن يأخذ عنه فكرة عابرة حتى، لا لصعوبة الوصول إليه، بل بسبب ما يبدو قناعة بأنه لا يستحق الاهتمام. وفي الوقت ذاته، لا يبدو باموق مطلعاً على تراث أوروبي طويل وزاخر، لموجات من التمرد على قيود الحجر الطبي في أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر، والتي كانت تواجهها السلطات بإطلاق الرصاص على المخالفين.
لا يقدم مقال باموق نصاً نموذجياً للنص ذي “القناع الأبيض”، الانتقائي والمشوه والمختزل، بل يذكرنا مرة أخرى بأن كل نص، وبالأخص الأدب، يتأسس على بنية إيديولوجية عميقة، بالقدر الذي يكون فيه هذا النص نفسه حجراً إضافياً في بنيتها.
*عن موقع المدن