في بلد تعد الفرهدة فيه جزء لا يتجزأ من ثوابته الجليلة وفولكلوره الشعبي، لا ينبغي استغراب ما يمكن أن يلحق ويحل بأرقى منظومة ابتكرها البشر لفك اشتباكاتهم، في شتى الحقول والميادين؛ أي الديمقراطية وما يرافقها من حقوق وحريات. ومن يقتفي اثر ما تعرض له هذا الوافد الجديد، من رعبلة وانتهاك لكل ما يختزنه من قيم ومثل وغايات نهائية؛ سيتعرف على حجم الحيف الذي عصف به وسط حواضن الفرهدة وغيلانها. لقد حل الوافد (الديمقراطية والحريات..) والذي كافحت من اجله اجيال وقوافل عديدة، من خيرة بنات وابناء هذا الوطن المنكوب بشتى انواع القوارض، في وقت وزمان لا يفتقر لذلك الرعيل المشرق والتعددية الحيوية وحسب، بل صار فيه استذكار ذلك الارث الوطني والحضاري من المحظورات. لنتمعن جيدا بمكر ودهاء قوارضنا المحلية في التعاطي مع ذلك الوافد؛ بداية وصموه بـ “الباطل” وما بني على باطل فهو باطل..! ومن ثم تلقفوه وشفطوا كل ما يضج به من حقوق وحريات، ليسارعوا باعادة انتاج واجهاتهم السياسية ومن ثم اعادة تدوير سكراب نقاباتهم واتحاداتهم القديمة وسط سيل من القذائف والذرائع التي تمنحها لهم حقبة الفتح الديمقراطي المبين، أما السلطة الرابعة وما يتجحفل معها من وسائل اعلام حديثة وتقليدية، فقد هرعت مسرعة لملاذاتها الآمنة والمتخصصة بتسويق فتوحات ومآثر الفرهدة واعادة تقاسم الاسلاب.
لذلك لا يمكن لوم من يعد مثل هذا اللقاء بين الديمقراطية والمجتمعات المتخلفة؛ كنوع من المكيدة لما ينضح عن ذلك من افرازات وعواقب مقوضة لتوازن واستقرار تلك المجتمعات، لا سيما عندما تفتقد تلك التجارب للتدخل والرعاية المباشرة والحازمة من المجتمع الدولي ومؤسساته المتخصصة والمجربة في مجال العدالة الانتقالية. وبمقدور المتابعة الحصيفة أن تجد فيما حصل للعراق بعد استئصال المشرط الخارجي للنظام المباد، عينة انموذجية لما جرى من فرهدة شاملة لمنحة الاقدار هذه (الديمقراطية وما يحف بها من حقوق وحريات). تمعنوا جيدا في نوع المخلوقات والجماعات التي تلقفت غنائم هذه المنحة، على تضاريسنا الممتدة من الفاو لزاخو، ستجدون الدفعة الاولى منها ذهبت لحطام القوى والجماعات التي تعفنت في المنافي، لكون فلول النظام المباد وسكراب كياناته كانوا في طور الانحناء امام العاصفة، ولم يمر وقت طويل حتى كشفت واجهاته الجديدة عن عشق لا مثيل له لكل مقتنيات من كانت بؤرة للباطل فيما مضى.
مثل هذا المآل لما انتظرناه طويلاً، هو نتاج طبيعي لتدهور واسع وعميق شهده المجتمع العراقي، وما عجزنا عن تقديم أية بدائل وطنية وديمقراطية طوال عقدين تقريبا من “التغيير”، الا دليل لا يتناطح عليه كبشان؛ على ما حققته تلك الردة الحضارية الواسعة والممنهجة من نتائج كارثية. أما اسهالات “الافندية” و “دغل الانتلجينسيا” وباقي حطام البشر والشعارات والأهازيج الصاخبة على مسرح الاحداث، فلا تنفصل عما انحدرنا اليه من حضيض. تمعنوا قليلا في مغزى الشعارات والمطالب التي تدعو الى “اسقاط النظام” أو تحويله الى “رئاسي” أو انتظار “الجنرال المنقذ” وغير ذلك من الخطابات المتخصصة بشيطنة ما بعد 2003، والتي لا يتخلف عن مهرجانات اجترارها؛ محظوظي الوليمة أو ممن لم تمنحهم الصدف مثل تلك الفرص؛ لتتأكدوا من نوع الجرف الذي انحدرت اليها عربة الديمقراطية في هذا البلد المستباح…
فرهدة الديمقراطية والحريات
التعليقات مغلقة