عندما نتمكن من القاء نظرة موضوعية ومنصفة على ما ضج به مشهد عراق ما بعد “التغيير” من هزائم وخيبات على شتى الجبهات المادية والقيمية، نظرة متخففة من موروثاتنا في مجال الغضب والشكوى والعنتريات “التي ما قتلت ذبابة”؛ نكون قد استعدنا شيء من الارادة في الانعطاف قليلاً عن ذلك الارث الذي أحكم قبضته على مصائرنا لزمن طويل. غربة مثل هذه النظرة والتوجهات نجدها ماثلة امامنا في المشهد الراهن، وبنحو خاص فيما يتعلق بالآمال المنتظرة من “الانتخابات المبكرة” والتي من المقرر اجراءها في غضون عام من تصويت البرلمان على تشكيلة الحكومة الجديدة. في ثلاثينيات القرن المنصرم وضع رواد الوطنية العراقية شعار (لا انتخابات من دون أحزاب)، ذلك الوعي العميق لجوهر عملية الانتخابات ودورها في التأسيس للتجارب الديمقراطية الفتية، من الصعب العثور على ما يمت له بصلة في المشهد الراهن، والذي منحت فيه المفوضية المستقلة للانتخابات رخصة العمل لأكثر من 200 حزب وكيان سياسي، كيانات تعجز فيه أقوى الميكرسكوبات من العثور على يتيم واحد من بينها تنطبق عليه معايير الحزب السياسي الحديث (وطنيا وديمقراطيا).
هنا نجد انفسنا أمام سؤال لابد منه؛ ما علل عجزنا وفشلنا في مهمة امتلاك مثل ذلك الحزب؟ بالرغم من مرور 17 عاماً على زوال السلطة المطلقة لذلك المخلوق الذي انتشل مذعورا من جحره الاخير، لم يوفق العراقيون من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، وعلى امتداد التضاريس المنكوبة (بين الفاو وزاخو)؛ في التأسيس لمثل تلك التحولات الجذرية في حياتهم السياسية والاجتماعية والقيمية، لاسباب لاعلاقة لها بمؤامرات ودسائس “الاعداء التاريخيين” ولا كل انواع واحجام الشياطين، كما يتفنن البعض في اساليب الضخ والترويج. علينا اكتشاف ذلك في حطام البشر والتقاليد ونمط الحياة والقيم التي تقف بالمرصاد لمثل تلك التحولات والانبثاقات، فالاحزاب السياسية بالمعنى الدقيق لهذا العنوان، هي نتاج لحاجات نمط الحياة الحديثة والاساس الذي تستند اليه؛ أي اسلوب انتاج الخيرات المادية وسبل تراكمها وتوزيعها، ومن ثم ما تفرزه من طبقات وشبكة علاقات اجتماعية، وبالتالي نوع النشاطات السياسية المتناغمة معها، عندها لن نتفاجئ بما يمكن ان تتمخض عنه انتخاباتنا المبكرة..
علينا الاستعداد لمواجهة ما يمكن ان تمنحنا اياه قدراتنا الفعلية (لا المتخيلة) في الجولة المقبلة من الانتخابات. حتى هذه اللحظة وبالرغم من ماراثون الاحتجاجات المتواصلة منذ خمسة اشهر، في العاصمة ومناطق الوسط والجنوب، ما زالت خارطة الاحزاب والكيانات السياسية لم تشهد أي تغيير جدي، كما ان التشريعات الخاصة بالانتخابات، والتغييرات على المفوضية المستقلة للانتخابات وغير ذلك من الترميمات، لن تشكل أي تهديد جدي لخارطة نفوذ الاقطاعيات السياسية المهيمنة على المشهد الراهن. صحيح ان البعض من ممثلي ساحات الاعتصام والاحتجاج، قد دعوا لتشكيل حزب سياسي لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، لكن تحويل تلك التطلعات الى واقع ليس بالامر الهين واليسير، كل من خبر النشاط السياسي والحزبي يدرك تعقيدات مثل هذه الانعطافات النوعية في حياة المجتمعات والدول. لكن ذلك لا يعني نهاية المطاف، كما ان مثل هذه المعطيات والشروط لا تدعو الى التشاؤم واليأس، بل الى الواقعية والعقلانية في التعاطي مع متطلبات وتحديات ومستلزمات مرحلة العدالة الانتقالية، ورافعتها الاساس الاحزاب السياسية (لا الاقطاعيات القبلية والاسرية) المتربصة بانتخاباتنا المبكرة..
جمال جصاني