لا شيء أفدح من أن ينخرط المثقف في الشأن السياسي، رغبة أو رهبة، تابعا بالضرورة للسياسي، وليس متبوعا، عدا موظفيه الإداريين. لا يترك هذا الانخراط آثارا ثقافية فحسب، بل يمتد ليشكل آثارا اجتماعية وسياسية، لا يمكن وضع زمن محدد لنهايتها. وعندما تولى مثقفون عراقيون، مسؤوليات إدارية ضمن الدولة العراقية في زمن النظام السابق، وشكّلوا جزءا من النظام السابق، وكانوا واجهة ثقافية له، مقابل رفض آخرين، من نفس جيلهم، أن يكونوا ضمن سلطة مستبدة، لا ترعى الانسان ولا حقوقه، ولا قيمة للثقافة لديها، سوى أنها مكياج يقوم بإخفاء تجاعيد السلطة بل قبحها. وكلما ازداد قبح السلطة وتشوهها، كلما تعكزت على المثقف الذي يكون هنا طبيبا مختصا بتجميل العيوب خارجيا، وجعل وجه السلطة، ناصعا للآخرين، رغم السواد والقبح في الداخل. هذه كانت مسؤولية المثقف المنتمي الى منظومة السلطة. وثمة أسماء معروفة للوسط الثقافي لا حاجة لإيرادها هنا، تولت مسؤولية دعم السلطة، وبث الحماس والرغبة، وإضفاء مشروعية أفعالها الدموية. فكانت قصائد البعض، بمثابة أسلحة موجهة للعدو، مثلها مثل البندقية والدبابة. بمقابل هذه الفئة من المثقفين، أو الشعراء، ثمة شعراء آخرون، آثروا الصمت، وبعضهم، نجا بنفسه، عندما هاجر خارج البلد، في محاولة للحفاظ على مكانته كمثقف وشاعر، يرفض أن يكون جزءا وتابعا لشخص بعينه، فكيف تابعا لسلطة غاشمة، مستبدة؟
وبعد سقوط النظام، ظهرت كتابات وقوائم بأسماء مثقفين وشعراء وفنانين، تغنوا برأس النظام السابق، وهناك من دعا لمحاسبتهم، حتى أن اسما وهميا، نشر أسماء كتاب تعاونوا مع النظام السابق. وبعد مدة، اغتيل صحفي ورد أسمه في تلك القائمة. ونشاهد بين فترة وأخرى، قيام كاتب أو مثقف بإطلاق تهديداته، بنشر ما يصفها بوثائق خطيرة! تكشف عن ميول هذا المثقف أو ذاك للنظام السابق، عبر كتابة مقال صحفي أو نقدي يشيد بنص كتب لصالح النظام السابق. وكلما حدثت مشكلة لأحدهم مع آخر، هدده بأن لديه تاريخه كله، والمتمثل بكتاباته القديمة. وهناك من قرر أن يكون قاضيا ثقافيا، فأخذ يطلق تصريحات وكلاما للنيل من تلك الفئة من الكتاب الذين لم يعد يملكون شيئا، كما كانوا يملكونه في السابق! ورغم مرور 17 عاما على سقوط النظام، وتبدل كل شيء، حتى الثقافة نفسها تبدلت، وتبدل معها الوعي العام، وظهر جيل ثقافي جديد، لازال هناك من ينشر مقالات وقصائد ونصوص نشرت في الزمن السابق. في محاولة لاستهداف كتابها.
مثقفو النظام السابق إن صحت تسميتهم، أخطأوا، أو كانوا يؤمنون بفكرة ما، وأخلصوا لها. حتى بعد سقوط النظام، صمتوا. لكن: فكرتهم تلك، كانت مخالفة للأخلاق العامة ومخالفة للضمير الذي يجب أن يكون المثقف شاهدا عليه. لكن قانونا، هم لم يرتكبوا جريمة. لذلك، لم تحاسب الدولة بعد سقوط النظام مثقفا كتب أو مدح النظام السابق. وأولئك المثقفون، خانوا ضميرهم الثقافي، شاءوا أم أبوا، وساهموا بأقلامهم في قتل الانسان والمكان. وإن عدم اعترافهم بهذا الأمر، قرار شخصي يعود لهم. أما من ينصب نفسه قاضيا ثقافيا، فهو أمر قد يخالف الضمير الثقافي أيضا. ذلك أن التلويح بالماضي الثقافي، في مناسبة أو دون مناسبة، والتهديد بنشره في العلن، لبواعث شخصية بحتة، والدليل أن بعضهم على وفاق تام مع زملاء من يهاجمهم بسبب موقفهم الثقافي السابق.
ما نحتاج إليه اليوم، هو مكاشفة ثقافية صريحة، وإلا فإن الحديث عن مدح النظام والكتابة للنظام، لن ينتهي أبدا، وكل من لديه مسألة شخصية مع أحدهم، يلوح له بماضيه. الغريب أن من كتب للنظام السابق والمعروف للجميع، صامت. لكن ثمة من كتب أيضا ومدح النظام، حتى لو بقصيدة واحدة، لكننا نجده اليوم، يفرغ ما بداخله من نفس طائفي، ويشتم النظام الذي مدحه يوميا دون مناسبة، مستغلا ضياع ارشيفه الثقافي! ننتظر اليوم الذي نشهد فيه اسدال الستار على هذا الموضوع، والالتفات الى جوانب ثقافية أكثر أهمية.
سلام مكي