حنان بيروتي
إذا أقررنا بتراجع الشّعر مكانةً وقرّاءً ونقدًا، وبتسيُّد الرواية المشهد الثقافي العربي المعاصر، فهذا لا يعني بأنّنا بالضرورة أمام سببٍ ونتيجة؛ فانتشارُ الرواية واتساع مساحة قرّائها وتخصيص الجوائز المُجزية لها ماديًا ومعنويًا، وإمكانية تحويلها إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيونيّ يوصلها لمساحة واسعة من المُتلقين، وإمكانية تحقق الشهرة والمردود المعنوي والمادي لكتّابها بصورةٍ أسرع وأكثر من الشّعراء؛ فلذلك أسبابُه المرتبطة بعوامل ساعدت على صعود الرواية إلى المكانةِ العاليةِ لكنه ليس السبب في تراجع الشعر؛ فلكلا الفنينِ حضوره ومساحته والتي تتأثر بمعطياتِ العصر وطبيعته وبالتطور والتغيّر الاجتماعي والسياسي والتكنولوجي.
الشّعر «ديوان العرب» لأنّه كان حاويًا للقصص والحكم والوصف ومشاعر الحب والكره والهجاء والرثاء، فقد كانت أغراضُه متعددة ومتنوعة وتشبع الذائقة الفنية في وقتٍ لم تكن فيه الطباعةُ والنشرُ والتطورُ التكنولوجي متطورةً بل ومذهلةَ التطور كما هو الحال الآن.
والشّعرُ نبضُ الروح ونافذتها وأجنحتها للتحليق، ثمة الواقع المُشير إلى تراجع مكانته وتقلص المساحة التي يتبوأها سواء من المقروئية أو من الاهتمام النقدي والجوائز الأدبية مقارنة بتلك المطروحة للسرد وللرواية تحديدًا ولهذا أسبابُه لكن قبل أن أتطرقَ لها لا بد من الإشارة الى أنّ انتشار الفن الأدبي لا يعني أنه الأبقى لأنّ ذلك يرتبط بعوامل متداخلة، ولسنا هنا بمجال المفاضلة بين الشّعر والرواية التي تتسيِّد المشهد الثقافي العربي كما هو ملاحظ سواء من اتساع القراء والتواجد في معارض الكتاب والجوائز والانتشار والشهرة التي يحققها كاتب الرواية الناجحة أو لنقل المنتشرة لأنّ ليس كلّ رواية ذائعة الصيت أو حققت الفوز بجائزة أدبية هي الأفضل بالضرورة؛ ثمة رواياتٌ هي الأجود لكنها لا تنتشر لأسباب ليس هنا مجال ذكرها.
يمتلك الشّعر خصوصية تميزه؛ فهو يلجُ العوالمَ الداخليةَ للنفس البشرية، ويلمِّح ولا يصرِّح، وهو فنٌ نخبوي يحتاج لقارئ متذوِّق ومدرَّب على السير على بروق اللغة وانفجاراتِها البلاغية، ومباغتة الاستعارات وملاحقة الرمز واستبطان الكلام، ومغازلة الحروف المتمَّنعة بالدلالة والمعنى والمستترة خلف التورية والجناس والطباق والفنون البلاغية المتعددة؛ يحتاج لقارئ صبور متمكّن يقدر أن يقرأ لوحة اللغة التي يتقن الشاعرُ الحقيقي رسمها بألوانِ الحرف الواثق وبأدوات الشعر صعبة المنال والتي بات نتاجٌ غير يسير مما يسمى تجاوزًا بالشّعر يحاول احتلال المساحة؛ فالكلام المنثور بلا فنيةٍ متمكنة ودون امتلاك الأدوات، أو المغرق بالرمزية، والحافل بالألفاظ الغريبة والتعقيد المقصود لذاته لا ينجحُ في جذب القارئ النخبوي ولا يقنع القارئ العادي الّذي يبحث عن جمالية مريحة لا تتعب ذهنه المكدود بالحياةِ اليوميةِ، وبطبيعة العصر اللاهث والمليء بالمغريات والإنشغالات والشاشات، إضافة الى أنَّ المتلقي المعاصر العربي تحديدًا تثقل كاهله الأخبار وتتكالب حوله الظروف والانتكاسات السياسية التي تهدد وجوده واستقراره، فمن الطبيعي أن يجد في السرد وتحديدًا في الرواية ما يمنحه ظلالَ واحة استراحة يرقبُ من خلالها الأحداث وسير حياة موازية دون أن يكون مشاركًا فيها بل مراقبًا ومتابعًا ومتلصصًا مما يمنحه إشباعا فنيًا وروحيًا عميقًا يستحق معه عناء هو أقرب لإستراحة؛ فالروايةُ الحديثة الناجحة تقدم فنًا يستوعبُ الشعر والسرد والمسرح؛ فهي استفادت من الفنون في الشكل والمضمون، وقادرة بأفقِها الفسيح على الإحاطة بقضايا فلسفية ودينية واجتماعية تجتذبُ القارئ المثقف والعادي على حدٍ سواء؛ ففهم الرواية ممكن على طبقات وهي تحقق في كلِّ مرة متعةً خاصةً ورحلةً فكريةً، واهتمامها بالمكان وبالتفاصيل والمشهدية وبتصوير الشخوص من الداخل ونحت الأحداث بطريقة تجتذب القارئ وتمتعه بالحكاية والحوارات والتأمل، وتثريه وتضمد مكابدته للواقع المشارك به، أما الشّعر كما أسلفنا يحتاج متذوقه أن يحفرَ مع كلمات وإيقاع ودلالات ورموز الشاعر، ويكابد معه ليحقق المتعة الفنية والتي لا يحفل بها إلا النخبة وهم قلة.
الذائقة المعاصرة كما أراها كميزان غير عادل بكفين غير متكافئَين؛ فهي تسعى بكفة بوزنة خفيفة للمتعة السريعة المتحققة من قراءة الومضات والنشرات القصيرة المتنشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تويتر وفيسبوك وفي الكفة الثانية بوزنة ثقيلة تبحث عما وعمن يشاركُها قلقَها ومشاكلَها، ويرصد التغيرات الاجتماعية والسياسيةَ التي تعصفُ بالمنطقة العربية برمتها، ويشركُها في الأسئلةِ والبحث عن إجابات وربما الاحتجاج والصراخ والسخط، وإعادة ترميمٍ للداخل المتشظي وللثقةِ المهزوزة بالقدرة على محاورةِ وفهم الواقع المريض، واجتراح الأحلام والتعبير عن بؤرة الضياع ولو بالسكن ببناءٍ متخيلٍ شاهق مشرف على الواقع هو الرواية التي تُبني من الكلمات وتعتمد على التخييل.
تراجعُ الشّعر هو مؤشرٌ مؤسفٌ على انحدار الروح العربية المولعة به بالفطرة، والتي تمتلك إرثا أدبيًا غنيًا وثمينًا من نفائسه، والشعر الحقيقي يمثل قلائد في جيد الأدب العربي لأنّ من امتلك الأدوات الفنية لنظم الشعر وصوغ القصائد حتى لو قلّ متذوقوه وندرت منابر النشر والاحتفاء فهو مبدع أصيل يحتفظ التاريخ بحرفه كمعدنٍ ثمين مدفون في باطن الأرض.
ولا يجوز النظر للشعر من زاوية أنه مهمش أو محتضر لأنّ ذلك غير دقيق، هو فن نخبوي لأنّه فن لا يأتي إلا بالفطرة والموهبة الأصيلة بينما الرواية قد يكتبُها من أتقن صنعة الكتابة بالدربة وبالصبر وامتلك رؤى فكرية ومخزون ثقافي، والنتاج الروائي غزير ومتفاوت بين الجواهر والحجارة.
ثمة سؤال ربما يسهم في اكتناه الأسباب: لماذا الرواية تتصدر المشهد وتتراجع مرحليًا القصةُ القصيرةُ وهي فن سردي من النسق الفني ذاته؟ ربما يؤكد ذلك حاجة المتلقي المعاصر لفن فسيح قادر على استيعاب قضايا كبرى وقادر على الإفادة من فنون عديدة بوجبة واحدة؛ فقد ملّ الوجباتِ السريعةَ أو النصوص التي تحتاج لإعمال الفكر وتتبُّع خيطَ الضوء الخفي في القصيدة التي لم يعد يتابعه ويتتبّعه غيرُ الشعراء والنخبةُ القليلة.