برزت في الآونة الأخيرة، ظاهرة دخيلة على الثقافة والشعر في آن واحد، وهي عزوف أغلب دور النشر عن طبع دواوين الشعر، عدا بعض الأسماء المهمة والتي لها نصيب عريض في هواجس القرّاء، حيث تتكرم عليهم دور النشر وتطبع نتاجاتهم. مقابل الانفتاح على باقي الأجناس الكتابية» قصة، رواية، نقد…» ولعل مرد ذلك الى أسباب لا علاقة لدور النشر بها، أو لها علاقة وثيقة. وهذا يعود الى طبيعة عمل تلك الدور، وهاجس أصحابها» الربح أو الثقافة» فعندما يكون الناشر، تاجرا يسعى لكسب المزيد من الأرباح، ويحاول قدر الإمكان محاكاة ذوق القارئ ورغباته، بصرف النظر عن جودة ورصانة تلك الرغبات، فهنا يتحول الناشر الى تاجر ولا غير، فهو ينظر الى الكتاب، كما لو أنها سلعة كأي سلعة، ويتعامل معها وفق منطق السوق وقانون العرض والطلب، حتى لو أدى ذلك لإشاعة ثقافة سطحية، غير رصينة، تتناغم وتتماهى مع ما يطلبه القرّاء الذين لم يمتلكوا بعد قدرة التمييز بين الحقيقي والمزيف، وهم يمثلون اليوم، شريحة كبيرة من مستهلكي الكتب. وقد يسعى الناشر الى الانحياز الى الثقافة الرصينة، ويمتنع عن نشر كل من لا يحقق أبسط شروط الكتابة الأدبية. الشعر، الذي بدأ قريبا وأصبح اليوم غريب، غريب لأن أصحاب دور النشر يرفضون طباعة الدواوين، بحجة عدم وجود طلب على الشعر، وانصرف القرّاء الى الرواية، وبين القارئ الذي تنكر للشعر ولدوره الذي تعجز باقي الأجناس الأدبية عن تحقيقه. الشعر الحقيقي، هو الذي ينطلق من مكامن الروح، ويتمثل عصارة التجربة الروحية. هو هاجس الانسان الأول، وندرة الشعر تأتي من ندرة الأنهر الصافية التي يغترف منها الكلمات الحقيقية. فلا يمكن الاستغناء عن الشعر، مهما حصل، لأن لا الرواية ولا غيرها، تحقق ما يحققه الشعر، فالرواية لديها وظيفة والشعر لديه وظيفة. وظيفة الشعر لا يمكن لأي جنس آخر أن يقوم بها، ولا يمكن للقارئ أن يتخلى عنها. دار المتوسط في إيطاليا، أخذت على عاتقها كسر السائد، والانتصار للشعر، عندما قررت أن تعيد الاعتبار له، من خلال طباعة دواوين الشعر وعلى حسابها الخاص، في وقت ترفض أغلب دور النشر طباعة الشعر حتى ولو حتى حساب الكاتب. وهذه مجازفة ومغامرة تقوم بها الدار، وهي أشبه الرهان على قدرة الشعر على العودة الى الصدارة، والسعي مجددا لأن يكون تشكل الوعي من خلاله لا من خلال الأنماط الكتابية الأخرى. ما مطلوب هو أن تحذو دور النشر حذو المتوسط في إعادة الاعتبار للشعر، وتعيد له مكانته التاريخية والمعاصرة، بوصفه الشغل الشاغل للقارئ والناقد على حد السواء. بالمقابل، ثمة مسؤولية ثقافية كبيرة تقع على عاتق الشاعر وهي مسؤولية الانتصار للإنسان في الشعر، وأنسنة الشعر بتعبير حسن ناظم. فعودة الحياة الى الشعر تبدأ من ميله الى الانسان أولا، والابتعاد على التكلف والتصنع. الشعر بحاجة الى الطبع لا التصنع، على الشاعر أن ينظر الى ما هو أبعد من نصه، وهو الانسان أولا. وهذا يبدأ عندما ينطلق الشعر من أعماق الشاعر وهواجسه الإنسانية قبل هواجسه الفنية والشكلية. ثم ينطلق ليكون ندا للواقع أو كاشفا له، عبر تمثيله لمعاناة ومكابدات الانسان. ما فعلته دار المتوسط هو جذوة في روح الشعر والشعراء، كلمة وسط الصمت المدوي للتجاهل المتعمد الغريب للشعر. فيندر أن نجد دارا للنشر تعامل دواوين الشعر، معاملة الكتب الرابحة! أي الكتب التي تجد من يقتنيها، الكتب التي لها مشترون، عكس كتب الشعر التي تعاني الكساد. فالنظرة الدونية للشعر، كما سمتها دار المتوسط، ليست نتاج دور النشر فقط، بل هي نتاج الشعر قبل كل شيء. الشعر الذي ابتعد عن الانسان ومشاغله، وراح يحلق بعيدا في فضاء التغريب والتجريب.
سلام مكي