لقد اشرنا مبكرا الى عواقب فقدان حركة الاحتجاجات لهوية واضحة وادارة متفق عليها وقائمة مطالب واقعية. مثل هذه العيوب البنيوية لا يمكن التستر عليها بضخ المزيد من سيول التمنيات والشعارات الرنانة والخطابات الارادوية، التي أدمنت هواية القفز على امكاناتنا الفعلية في الاصلاح والتغيير، وما نشاهده اليوم من “حوار الطرشان” بين مختلف الكيانات الاجتماعية والسياسية، وعجزها جميعاً في الوصول الى حلول أولية، تنتشل مشحوفنا المشترك مما يتبرص به من تحديات مصيرية، يفضح قلة حيلتنا وغربتنا عن كل ما يتصل بقاموس الحكمة والمسؤولية والقدرة على اتخاذ القرارات الشجاعة. ان الاصرار على طرح شروط تعجيزية واختزال المطالب بمحور واحد؛ هو شخصية المرشح لموقع رئيس مجلس الوزراء، والذي بدوره يخضع لقائمة من المواصفات تفضي لاجتهادات وتأويلات بلا حدود، لا يعني سوى مواصلة الهروب الى الامام. ما نحتاجه هو التخفف من مثل هذه الهرولات “السقوف المرتفعة للمطالب والمواصفات” والنفخ بخطابات الكراهة وشيطنة وتسقيط الآخر المختلف، فمن دون ذلك لا معنى للحديث عن ثورة أو انتفاضة أو اصلاحات على المدى المنظور.
من يحرص على قراءة المشهد الراهن، بعيدا عن اجواء الانفعالات والمزاودات الحماسية ومناخات التشرذم والتمترس التي بسطت هيمنتها على تفاصيل حياتنا؛ يدرك لا الحاجة الى ما ادركه الاغريق قبل اكثر من 2500 عام “الفضيلة وسط بين رذيلتين” وحسب، بل كم نحن نفتقر لمثل هذه السبل والتقنيات المجربة، حيث نقف اليوم بلا حول ولا قوة بين رذيلتي (القمع أو الفوضى) وهذا ارث لم نفلح بتجفيف مستنقعاته منذ حيرة الملك فيصل الاول والذي جسدته عبارته الموجعة “سماعون للسوء ميالون للفوضى”. من دون الوصول الى ما يمكن ان نتفق عليه، لا يمكن ترقب حصول أية تحولات جدية ولو اهدتنا الاقدار “مرشح كامل المواصفات” للموقع الذي يتناهش الجميع من اجل الاستحواذ عليه. مشكلتنا لا علاقة لها بشخص “الرئيس” ولا بانتخابات مبكرة ولا طفح اضافي من التشريعات والقرارات ومدونات الشرف، التي سرعان ما تفرغ من مضامينها لاسباب وشروط محلية محظة؛ مشكلتنا اننا جميعاً بهذا القدر او ذاك، نجيد فن الهروب من مواجهة متطلبات التأسيس للعقد الاجتماعي والسياسي والقيمي بيننا، والذي من دونه لن نتمكن من امتلاك ما يعرف بـ “النظام” أي (الدولة-الامة) التي تحولنا الى مواطنين..
ان الامعان في دفع الناس صوب المتاريس المسكونة بعقائد “الهويات القاتلة” وسكراب العقائد والآيديولوجيات التي تجاوزها الزمن، والاصرار على منهج سحق الآخر وفرض شروط الاستسلام من دون قيد أو شرط عليه، لن يفضي لغير ما تجرعناه من حقب التداول بين “الضحية والجلاد” والتي حولت أفضل ما هدهدته العقول والضمائر الحرة، من تطلعات واحلام الى سلسلة من الكوابيس، او كما قال البير كامو “كلنا نبدأ بطلب العدالة، لكننا ننتهي بتنظيم جهاز للشرطة”، مثل هذه النهايات ليست بعيدة عما يمور بالمشهد الراهن، من خطابات وانفعالات وسقوف عابرة لكل أنواع الحدود، ومن اصرار على المزيد من ضيق الافق والتعفن داخل اجواء الشرنقات القاتلة. ما نحتاجه لا يمت بصلة بتقاليد اجترار العنتريات والبطولات الفاشوشية على دروب الرسائل الخالدة، بل في الالتفات الى ما انتشل المجتمعات والامم من مثل هذه الاشتباكات العقيمة؛ أي شجاعة تقديم التنازلات العادلة والمتبادلة لبعضنا البعض الآخر، بعيدا عن وهم المواصفات والتي يقبع في تفاصيلها الشيطان…
جمال جصاني