في الوقت الذي يجد فيه العراقيون أنفسهم بأمس الحاجة، الى الاستعانة بالوسيلة المجربة لردم وتجفيف مستنقعات التشرذم، التي انتشرت وترسخت على شتى تضاريسهم المادية والقيمية؛ أي “الحوار” بما يحمله من قدرات على مد جسور الفهم والوعي العميق لمصالحهم الحيوية، من دون تمييز على اساس الرطانة والهلوسات والازياء، لا سيما بعد أكثر من ربع قرن على هيمنة ابشع تجربة توتاليتارية على تفاصيل حياتهم ومصير وطنهم، قطعت عنهم سبل التواصل مع العالم الخارجي ومع بعضهم البعض الآخر، يجدون انفسهم اليوم أمام نوع ممسوخ من تلك التقنية والمنظومة المجربة، أي ما يمكن أن نطلق عليه بـ “دغل الحوارات”. ووظيفة “الدغل” لا تحتاج الى شرح وتوضيح، فلا أمل بالتأسيس لمثل تلك الحوارات الصحية والسليمة مع وجود هذه الحشائش الضارة والمميتة. وكعينة انموذجية لمثل ذلك “الدغل” الذي تسلل بكثافة لحياة العراقيين بعد زوال النظام المباد، هو ما عرضته فضائية دجلة مساء الاثنين 20/1/2020 في برنامجها الحواري “وجهة نظر” والذي يمثل امتدادا لمآثر قناة الجزيرة القطرية وما خلفته من اسلوب عمل وتقاليد في مجال تخصيب “دغل الحوارات” المتخصصة باشعال حرائق “الهويات القاتلة” وما افضت اليه من حال واحوال لم تعد تحسدنا عليه قبائل الهوتو والتوتسي.
بالرغم من عدم استمرار الحلقة الى نصف الوقت المخصص لها (ساعة واحدة)، حيث انسحب الضيف اللواء عبد الكريم خلف، بعد ان وصل “دغل الحوار” بينه وبين مقدم البرنامج الدكتور نبيل جاسم، الى نهايات غير لائقة اختتمت بعبارة المضيف: تأدب يا بوق السلطة يا بوق القتلة، واجابة الضيف: أنت معروف كم هو سعرك؟ أنت تافه..
لسنا بصدد البحث في تفاصيل هذا اللقاء وبؤسه واغترابه عن كل ما هو مهني وموضوعي، ولا ما الحقه من اساءة لا بطرفي “اللاحوار” وحسب بل بالمتلقين جميعاً، فكما يقول المثل “المكتوب معروف من عنوانه”، أي التقرير المتحامل الذي استهل به معدي البرنامج ذلك اللقاء. ما يهمنا في تناول مثل هذه العينات، هو ما تلحقه من اضرار بقدرة المتلقي على فهم ما يحدث، ودفعه بشكل ممنهج الى المزيد من المتاهات والتخندق والضياع، وكل من يعرف شيئا عن الادوار الفعلية لاقطاعيات اعلام ما بعد “التغيير” يدرك مواهب سدنته في التلاعب بعقول وعواطف المتلقي، وكما يقول الروائي الكبير ماريو فارغاس “الشعب الذي لا يقرأ يسهل التلاعب فيه”. العراقيون آخر ما يحتاجونه سكراب الخطابات التي تشرذم الناس الى فسطاطين (ملائكة وشياطين)، وهو خطاب يمثل الضد النوعي لمفهوم ووظيفة الحوار، الذي فشلنا جميعاً في التأسيس له لاسباب تطرقنا اليها مرارا وتكراراً. كنا بحاجة الى برامج حوارية ومنابر اعلامية تضع نصب عينيها، مهمة اعادة الروح لما استهدفته حقب الذل والضحالة وانتهاك كرامة وحريات البشر، لكن الاقدار وحطام الملاكات والبشر وسكراب القيم، جرفتنا الى مسارب اخرى بعيدة كل البعد وماهدهدته مخيلاتنا من تطلعات مشروعة. هذا الحصاد المر في الميدان الاشد فتكا في حياة المجتمعات (الاعلام) نجده في كل هذا الالتباس والعتمة والعجز عن الوصول الى حلول واقعية ومسؤولة لمواجهة الكارثة المحدقة. لا يمكن فك طلاسم هذا المشهد الغرائبي لعراق ما بعد زوال “جمهورية الخوف” من دون التعرف على الادوار التي اوكلت الى هذا الكم الهائل من وسائل “الاعلام” بشتى اشكاله واحجامه ووظائفه ومصادر تمويله…
جمال جصاني