غرائبية المشهد العراقي لم تتقلص بعد مرور ثلاثة أشهر على انطلاق الاحتجاجات الأخيرة، ومن يتابعها بدقة يجدها قد ولجت لاطوار جديدة، بعد أن كشفت التجاذبات وسيل الدقلات في بورصة تصفية الحسابات (المتعددة الجنسيات والاحجام) بين قوارض المنعطفات التاريخية؛ عن حجم المساحة الواسعة للعجز والفشل في الوصول الى حلول واقعية، لذلك الطابور الطويل من التحديات. انسداد الآفاق والعجز عن تقديم حلول واقعية، لا تنحصر بالطبقة السياسية الحاكمة والمأزومة وما ينضح عنها من محاولات يائسة لاعادة تدوير بضائعها النافقة، كما نشاهده في محاولاتها الاخيرة لاعادة تكليف رئيس الوزراء المستقيل وحسب، بل فيمن يطرح نفسه كممثل عن المحتجين، ويتدافع بقوة لاخذ زمام مسؤولية تقديم مرشحين لمنصب رئيس الوزراء، وهذا ما تنطعت له بعض خيم الاعتصام، أما البعض الآخر فقد اكتفى بتقديم الشروط والمواصفات المطلوبة من ذلك المرشح الموعود. مثل هذه الوصفات والكبسولات التي تختزل مشوار طويل من الخيبات والهزائم، بموقع ما ومواصفات شخص ما، بوصفه نوعاً من الحل، انما يفضي في نهاية المطاف الى عواقب لا تقل بؤساً عما تعرفنا عليه.
لا يحتاج المتابع الحصيف لذكاء خارق، ليكتشف عقم التعويل على ما يمكن أن نطلق عليه بـ “السوبر مرشح” لمنصب رئيس الوزراء، والذي ياخذ على عاتقه مهمة انتشال مشحوفنا المشترك من محنته المتفاقمة يوماً بعد آخر. فالاوضاع المازومة والمأزق الذي نعيشه جميعاً (افرادا وجماعات موالاة ومعارضة..) لم تنشأ بفعل وجود شخص مناسب أو غير مناسب بهذا الموقع، بل هي نتاج لمشوار طويل ومرير من الاخفاقات في مواجهة تحديات متجددة ومتعاظمة. هناك الكثير من المستلزمات والشروط للخروج من هذه المحنة، وهي جميعها ستبقى بعيدة المنال من دون وجود الشرط الاساس والمجرب لذلك؛ أي القدرة على الحوار بين الأطراف المتخاصمة وبالتالي الوصول الى الحلول الواقعية، والتي تؤدي بالنهاية الى تأسيس مشروع وطني حضاري لا يقصي أحداً، ولا يمسخ معايير العدالة الانتقالية وفقاً لهذياناته. وقد اشرنا في مناسبات سابقة الى خطورة منهج اسقاط التمنيات والسقوف العالية من المطالب، على مثل هذه المنازلات والزحزحات السياسية والاجتماعية، ولنا فيما جرى في السودان مثالا حياً على تلك الديناميكية والبراغماتية في التعاطي مع مثل هذه المراحل الانتقالية، فبعد مشاورات طويلة ورصينة ومسؤولة بين قوى اعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي؛ تم الاتفاق على تكليف خبير السياسات الاقتصادية عبدالله آدم حمدوك رئيساً لوزراء الحكومة الانتقالية في السودان.
من دون وجود ممثلين حقيقيين (لا دمى) للاطراف المتنازعة، ومن دون التأسيس لثقافة الحوار واحترام الآخر المختلف، لا يمكن الحصول على “حمدوك عراقي” ينهض بمسؤولية ادارة مهمات مرحلة العدالة الانتقالية. لا مناص من مواجهة ذلك الشرط المهجور في مضاربنا المنكوبة (الحوار العقلاني) لنحظى بفرصة البدء بترميم خارطة التشرذم والهوان الحاليين، غير ذلك يعني الامعان في اجترار الحلقات المفرغة من التشرذم والتقوقع والتي اوصلتنا الى هذا الحضيض. ان عجزنا عن اجراء مثل تلك المشاورات والحوارات والمفاوضات، يؤشر على وجود عطب كبير وخلل لابد من الالتفات اليه، لا طمطمته بطفح الشعارات والاهازيج والاناشيد والتهديدات المتبادلة، وغير ذلك من تقنيات الهروب للأمام، كما يحصل اليوم في انتظار الفرج من خلال الحصول على “السوبر مرشح” بوصفه اكسيراً لفك طلاسم مرحلتنا الانتقالية..!
جمال جصاني