حسب الشيخ جعفر..
علي حسن الفواز
في لحظة كابوسية طاعنة لم يستطع الشاعر حسب الشيخ جعفر أن يكتب أيّ شيء، أو حتى أنْ يحتج على رعب تلك الكوابيس التي تتقنّع بالسياسة أو بالايديولوجيا أو بالسلطة، فكلُّها تبعث على الخوف، وعلى تعطيل اللغة من أن تكون بوحا أو خطابا، أو شهوة باتجاه العالم..
يقول عنه الراحل فوزي كريم وهو يستعيد صوته: «أخي العزيز فوزي.. معذرة عن التأخّر، لا أستطيع أنْ اكتب أيَّ شيء في هذا العالم الكابوسي…قد يبدو عالم كافكا طيبا مقارنة به. صدّقني، حاولت، ولم استطع»
هذه الرسالة هي موقفٌ اشهاري من العالم، فيه من الخوف مثلما فيه من الوجع والاحتجاج، وإذا كان حسب الشيخ جعفر من الشعراء الذين يعرفون الطرق السحرية للاستعارة والتورية والمجاز، فإن ضغط الرعب أصاب اللغة ايضا بالاختناق، وترك الشاعر مُستلبا، وتائها، وباحثا عن البوح في طرقٍ ضيقة وآمنة، وعن صمتٍ يمكن أن ينقذه من ذلك الضجيج المحموم بالكوابيس..
علاقة الشاعر بالعالم، هي وجهٌ آخر لعلاقته بالعالم أيضا، وكلا العلاقتين تفترضان شيئا من الاطمئنان، والدعة، والتأمل الذي يدفع بالشاعر الى العتبات التي تشبه الفراغ، أو الاستعارات التي تستدعي وعي الاشياء في وجودها، أو في تحولها، إذ هي وظيفة الشاعر الكبرى أنْ يراقب تحولها، لا أن يخضع لرقابتها، فالرقابة هنا تلصص، عنف ما، خوفٌ من نوع ساحق..
الشعر لا ينمو في اللغة المالحة، ولا يصحو عن الخوف، وحين يمارس حسب الشيخ جعفر اقصى شغفه للتصريح عن ما في اللغة، فإنه سيرى سجّانا أو رقيبا، أو قاتلا يسخر من لغته، ومن تورياته، وربما سيقول له مازحا بكراهية فاضحة: أنتم الشعراء مفضوحون، لن تنفعكم تلك الهروبات الساذجة، والحيل البلاغية، فنحن ندرك أنكم تكرهون الحكومات، لكنكم تمارسون اغواءاتكم دون جدوى.
الشاعر عند حسب كائن فائق الصمت، لكنه ساحر الضجيج أيضا، وأنّ هروبه وخوفه، وحتى اخطاءه الساذجة تجعله أكثر حساسية من الندم، الذي يشبه الفجيعة، وهو ما قاله عنه ايضا فوزي كريم: « إن قاموس قصائده الشعري في المجموعات» نخلة الله» «الطائر الخشبي» « زيارة السيدة السومرية» و» عبر الحائط ..في المرآة» يفيض بأشياء وعناصر حياة الاهوار والجنوب الفلاحي الدنيا، وهو لا يخلو من شعور بالذنب، خشية فقدان تلك التميمة التي ترعى طفولته البيضاء»
الكوابيس هي الضد الشعري، وهي التوهم بالمطاردة، إذ يلبس الرقيب قناع السلطوي ورعبه الاستعاري، ليجاهر بالكراهية، وبالقتل والغياب، وبسحق اللغة تحت بسطال لا يثق بالرأس ولا بالأفكار، ويطلق على الشاعر تُهماً رخيصة، اقصاها الخيانة، والشعوذة، والزندقة، والخروج عن لعبة النار التي اعتادت السلطة أن تصنع مواقدها..
لاشيء يملكه الشاعر إزاء ذلك سوى اللغة، وسوى الصمت، وما بينهما مساحة شاسعة من « الغربة» إذ تندفع اللغة الى البوح والتصريح والاحتجاج، مثلما يدفع الصمت الفاجع للخرس، أو للإحساس بالذنب، حيث تمارس السلطة رعبها «البلاغي» واوهام عقدها القديمة من الشاعر، ولتضعه أمام خيارات الاخصاء والخيانة والموت.
هذه الخيارات هي الكوابيس بعينها، هي اللعبة الشيطانية التي تتحول الى بذائة والى قطيعة قاتلة، أو الى حبسٍ ومحوٍ من الصعب على شاعرٍ اعتاد الغناء أن يقف مجذوبا أو مسطولا أمامها، وربما كانت السلطة تريد من الشاعر هذا الوقوف الاجباري، فهي غير معنية بالتاريخ والامجاد والسير، بقدر عنايتها بصناعة الاصوات التي تشبه الصراخ، الاصوات التي تخدع الناس، وتُهيّج الناس، وتعيد لهم اصوات الاسلاف الذين ناموا كثيرا عند عتبات الحرب التي أكلت رؤوسهم وشواهدهم واحلامهم..
حسب الشيخ جعفر يعود الى الصمت لاجئا ولائذا، لأنه سيعود عبره الى ذاكرة التأمل، حيث يتعرى العالم من اخطاء الرقباء، ومن كوابيس القتلة، وحيث يستعيد الشاعر الذي لملم اوراق جسده، وشهوات حريته واطلق صرخته الخرساء بوجه الاخرين الذين يشبهون الجحيم تماما..