القسم الأول
شاكر الناصري *
منذ الأول من تشرين الأول الماضي، تعيش مدن العراق، العاصمة بغداد والناصرية والنجف وكربلاء والحلة والبصرة وواسط والديوانية على وقع حراك احتجاجي هائل جداً وغير مسبوق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الأول من تشرين الأول الماضي. لكن عنف السلطة وقمعها السافر الذي أودى بحياة أكثر من 250 شهيداً، وأكثر من 11 ألف جريح وأعداد غير معروفة من المغيبين والمختطفين، حول مطالب الاحتجاج إلى مطالب سياسية صريحة: الشعب يريد إسقاط النظام!، ولتدخل الحركة الاحتجاجية في مسارات أكثر جدية وقدرة على المواجهة وتتسع مثل النار في الهشيم.
إن ما يحدث، الآن، في العراق تجاوز مرحلة الاحتجاج المطلبي المحصور في مطلب واحد أو عدة مطالب، ولم تعد قضية توفير فرص العمل ومكافحة فساد السلطة وقواها، وتوفير العيش الكريم لمن يقبعون تحت خط الفقر، قضية محورية رغم أهميتها، بل تجاوزها بمراحل متقدمة، تمس النظام السياسي وأسسه ودستوره والطبقة السياسية وقواها بشكل صريح، وطرح بدائل وتصورات كثيرة لم تختلف في مجمل ما تطرحه سوى بتفاصيل صغيرة، لكنها تتفق على أن النظام القائم والطبقة السياسية الحاكمة قد أصبحا عبئا ثقيلاً على العراق وتحولت ممارسات السلطة وفسادها إلى مآس مدمرة يمكن تلمس آثارها على حياة العراقيين وأوضاعهم وآمالهم. وأن التغيير الحقيقي لا يكمن في تعديل وزاري هنا أو تعديل دستوري هناك أو فتح قاعات المحاكم لمقاضاة السراق ورؤوس الفساد من وزراء ونواب ومحافظين، ولا بإطلاق سلسلة وعود تشغيل ووظائف وبيوت سكنية ومشاريع عملاقة وملاحقات قضائية وحزم إصلاحية، بل بالتغيير الجذري للنظام القائم، فيما تحولت مطالب اصلاح النظام إلى أمر مثير للسخرية خصوصاً عندما تنطلق من القوى التي تساهم في ترسيخ هذا النظام وشريكة أساسية في السلطة الحاكمة!
الحراك الاحتجاجي الثوري الذي تطور بشكل لافت، وبات موضع احترام الجميع ويحصل على الدعم الشعبي الكبير شدد الضغظ على النظام السياسي والسلطة التي تغرق في ملفات فسادها وفساد أطرافها والشركاء في تأليفها وتثبيتها، وعمق من الشرخ الفاصل ما بين ملايين العراقيين، بهمومهم ومعاناتهم فقرهم وبطالتهم، من جهة، وبين السلطة والطبقة السياسية الحاكمة بنظامها ودستورها وطائفيتها وفسادها من جهة أخرى. لقد وصل هذا الشرخ حد القطيعة ولم يعد بإمكان أي قوة أو مشروع سلطوي أن يردمه. الثورة العفوية التي تجري وقائعها في بغداد والمدن الاخرى، هي إقرار بأن العراق مقبل على مرحلة جديدة، لكنها مرحلة محفوفة بالمخاطر بحكم وجود أطراف تواصل تدخلاتها وتدعم أطراف سياسية ومليشيات مسلحة لترسيخ نفوذها في العراق.
عندما نتحدث عن تطورات الاحتجاج التي وصلت إلى لحظة الثورة، فنحن نتحدث عن الاعتصامات والإضرابات العامة والعصيان المدني والتحركات الميدانية لقوى الاحتجاج من النشطاء والعمال الذين طوروا احتجاجتهم وأوصلوها إلى الموانيء وآبار النفط التي تشكل عصب حياة الدولة الريعية في العراق، بعد أن تم تدمير كل القطاعات والانشطة الصناعية والزراعية وتحول العراق إلى سوق ضخم لتصريف منتجات العالم! وكذلك نتحدث عن الفئات الاجتماعية التي ساهمت في الاحتجاجات منذ يومها الأول أو بعد أن تم الاعلان عن الإضرابات العامة والعصيان المدني، فالحديث عن « جيل البوبجي» وسواق التكتك، تحول الآن إلى حديث عن ثورة اجتماعية وطبقية صريحة تمكنت من جر الفئات الاجتماعية المختلفة إلى ساحاتها والانشغال بتفاصيلها وكيفية حمايتها وإدامة زخمها والآمال معقودة على مشاركة واسعة وجدية لعمال النفط وعمال القطاعات الاخرى.
إن ممارسات السلطة وأجهزتها الأمنية ومليشياتها وقمعها السافر ضد المحتجين، القتل العمد والرصاص الحي والقنص الغادر والقنابل المسيلة للدموع التي تخترق رؤوس المحتجين وتقتلهم، دفع بالملايين من العراقيين من موظفين وطلاب وعمال وأصحاب مهن حرة، للدخول إلى ساحة الاحتجاجات والاعتصامات والإعلان عن المشاركة الجدية والفاعلة فيها، فلم تعد القضية تتعلق بوعود سلطة كاذبة، ولا بملفات فساد لم يفتحها أحد، ولا بمئات المليارات من الدولارات التي نهبت، بل بمصير العراقيين جميعاً، وما يمكن أن يتعرضوا له، وأي جحيم سيضاف إلى جحيم حياتهم لو أن هذه السلطة والنظام القائم وأصلاً الحكم لسنوات اخرى!
منذ عقود طويلة من عمر الدولة العراقية كان العصيان المدني، والإضرابات العمالية والمهنية مغيباً وخارج حسابات السلطة والقوى الاجتماعية والسياسية إلا فيما ندر، لكنه تحول، وبحكم الواقع الاجتماعي الثوري الذي أفرزته حركة الاحتجاجات، وبفعل دعوات من المحتجين في ساحات الاعتصام، إلى ورقة قوية ضد السلطة والنظام القائم وضد قوانين وإجراءات تعود في مجملها لحقبة حكم حزب البعث وصدام حسين. لقد تحول العصيان المدني إلى مفردة ثورية يتغنى بها حتى الاطفال الصغار الذين يرفضون الذهاب إلى مدارسهم، في حين تواصل السلطة قتل المحتجين وخنقهم بالغازات السامة!
- عن موقع الجدلية