رجب أبو سرية*
جولة انتخابية ثالثة خلال عام، باتت هي الأمر المرجح الذي تنتظره إسرائيل، بعد أن استنفدت حتى اللحظة كل السيناريوهات الممكنة لتجنب هذا الخيار، وبعد فشل الطرفين في تشكيل حكومة وحدة مفضلة لدى أغلبية الجمهور الإسرائيلي، كذلك استحالة تشكيل حكومة ضيقة من أحد الطرفين كما كان واضحاً منذ البداية، ثم فشل الطرفين في حشد واحد وستين صوتاً لتكليف شخصية ثالثة بمهمة تشكيل الحكومة، وكانت آخر محاولات الضغط التي مارسها صاحب «بيضة القبان» بين المتخاصمين، أي أفيغدور ليبرمان زعيم «إسرائيل بيتنا» في التلويح بالانضمام إلى حكومة يمينية ضيقة، لكن سرعان ما تبين انه يسعى لإجبار «كاحول لافان» على القبول بتولي بنيامين نتنياهو مهمة رئاسة الحكومة أولاً، لفترة محدودة لا تتعدى الستة أشهر، ليعلن بنفسه عن أن إسرائيل ذاهبة لانتخابات ثالثة.
هذا الخيار أخرج رئيس الدولة رؤفين ريفلين عن طوره، حيث وصف في ذكرى وفاة ديفيد بن غوريون قبل أيام كلا من بنيامين نتنياهو وبنيامين غانيتس بالجنون، «كونهما يجران الدولة إلى هذا الخيار البائس»، وفي الحقيقة فإنه رغم أن الليكود قدم تنازلات في الأيام الأخيرة، إلا أن كون ذلك قد جاء بعد تقديم المستشار القضائي للحكومة لوائح الاتهام بحق رئيس الحكومة الانتقالية، قد جعل خصمه يتشدد ويلتزم بما سبق له وأن وعد به ناخبيه من أنه لن يشارك في حكومة مع رئيس حكومة متهم قضائياً.
يبدو أن استطلاعات الرأي التي تركزت في الأيام الأخيرة حول أي من قادة النخبة السياسية الإسرائيلية يتحمل فشل تشكيل حكومة الوحدة، ويجر إسرائيل للانتخابات الثالثة، هو الذي دفع ليبرمان للتلويح باحتمال أن يوافق على المشاركة في حكومة يمينية ضيقة، خلافاً لموقفه منذ عام، فاستطلاعات الرأي تحمله بنسبة 35% بعد نتنياهو الذي يحمله الجمهور المسؤولية الأولى بنسبة 42%، هي التي دفعته للدفاع عن نفسه، وربما أيضا أنه فكر في الذهاب إلى ذلك وهو يعلم بأن أيام نتنياهو باتت معدودة، حيث أن أشهرا قليلة تفصله عن المثول أمام القضاء، أو أن ليبرمان الذي ما زال يحرص على إظهار نفسه كمخلص لليمين، راهن على أن حكومة اليمين الضيقة ستكون في قبضته، فإذا ما تنصل الحريديم لاحقاً من الالتزام بتمرير قانون التجنيد والقوانين محل الخلاف بينهما، فإنه بإمكانه أن يفرط عقد الحكومة بأية لحظة.
لكنه بالمقابل يدرك بأن أية حكومة، وحدة أو يمينية ضيقة ستشكل خشبة خلاص لنتنياهو وتفتح له باب الخروج الآمن، على أقل تقدير، وهو الذي ما زال يظهر رباطة جأش وكأن شيئا لم يحدث، فيمارس صلاحياته كرئيس حكومة بشكل عادي، لدرجة أن يترك كل شيء وراءه ويسافر للقاء وزير الخارجية الأميركي، ثم يتبجح بالقول بأنه سيفوز في الانتخابات القادمة.
بعيداً عن صخب النخبة الإسرائيلية، وعبثها، فإن الشارع الإسرائيلي يغلي كما لو أن هناك ناراً تحت الرماد، وعلى خليفة توجيه لوائح الاتهام لرئيس حكومته، وفي مواجهة تشبثه بالحكم، بدعوى انتظار الحكم القضائي والخضوع للقانون، يرى خصومه بأن هناك جانبا أخلاقيا، لا يأخذه رئيس الحكومة ولا حزبه ولا معسكـره بعيـن الاعتبـار.
منذ سنوات طويلة لم تشهد إسرائيل تظاهرات على خلفية سياسية، ووفق منطق النخبة السياسية، يتم التعامل مع الأزمة كما لو كانت وليدة خلل فني، يمكن حلها بجملة اقتراحات هنا أو هناك، فيما البعد الحقيقي لا يتطرق إليه احد، وهو أن «الديمقراطية الإسرائيلية» إنما هي ديمقراطية زائفة أو ناقصة في أحسن أحوالها، ذلك أنه لا تستوي مع الديمقراطية الثقافة العنصرية، ولو أن الوعي العام وكذلك وعي النخبة كان خالياً من البعد العنصري، لما تم النظر إلى القائمة العربية، من قبل معظم الأطراف، من رئيس الدولة إلى رئيس الحكومة، إلى قادة معظم الأحزاب التي تمثل أغلب الجمهور الإسرائيلي/اليهودي، على أنه محظور عليها المشاركة في الحكم، أو حتى أن تتشكل حكومة تستند على دعمها البرلماني.
كذلك لا يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية أو دولة قانون ومؤسسات، وهي دولة استعمارية في نفس الوقت، تحتل أرض دولة أخرى، وتقمع وتقهر شعباً آخر، وتمنعه من العيش في سلام وحرية، وتحرمه من التمتع بأبسط حقوق الإنسان في العصر الحديث.
إن أصل الأزمة التي تمر بها إسرائيل أنما هو بنيوي، ذلك أن اليمين منذ ربع قرن، قد كرس هذه الطبيعة الاستعمارية/العنصرية لدولة إسرائيل، بإغلاق أبواب الحل مع الجانب الفلسطيني، والذي كان يمكنه أن ينزع الصفة القبيحة عن دولة إسرائيل، وهي أنها دولة احتلال استعماري، كذلك فإن تكريس النظرة العنصرية من خلال الإيغال في نشر الثقافة اليهودية، لتصبغ إطارها العام، عزز البعد العنصري، وهكذا لا يمكن الحديث عن دولة بأنها دولة ديمقراطية لمجرد أنها تجري انتخابات عامة، وتشكل حكوماتها عبر صناديق الاقتراع، فالديمقراطية أعمق وابعد من ذلك بكثير.
كل ما طفا على السطح من انجازات سياسية، لا يمثل إلا سرابا، وتحرك الشارع الإسرائيلي، لقلب نظام الحكم الحالي، اليميني منذ ربع قرن، يحتاج إلى إسناد فلسطيني يتمثل في المقاومة الشعبية للاحتلال، كذلك في كفاح شعبي من قبل الأقلية العربية من مواطني دولة إسرائيل ضد مظهرها العنصري، تماما كما حدث في حرب فيتنام، حيث كانت مقاومتها للاستعمار الأميركي سببا بعيدا، طارد فلول النظرة العنصرية تجاه السود، قبل خمسين سنة.
قد يبدو أن ديمقراطية نتنياهو وشركاه تنتحر الآن، وقد تبدو إسرائيل بحاجة إلى «تنقية ديمقراطيتها» من شوائب الاحتلال الاستعماري ومن تطبيقات البعد العنصري للأغلبية الحاكمة، لكن بقاء إسرائيل كدولة تعيش العصر الحديث، وتنفتح على المنطقة يتطلب ذلك، أما بقاء نظامها «الديمقراطي الحالي» فإنه يتطلب أن تبقى داخل عزلة.
- عن صحيفة الايام