شكر حاجم الصالحي
من منفاه الكندي بعث لي الشاعر رزاق حميد علوان مجموعتين شعريتين صدرتا له مؤخراً ,(( الاسطورة أوليفيا )) و (( اعترافات رزاق علوان )) , معظم نصوصهما ايجاز لمعاناة الغربة والحنين والمنافي الباردة , وفيهما شوق عاصف لمرابع الطفولة في الحلة , وللأصدقاء الذين عاشوا في ازقة وحارات المدينة التي مازالت تغفو على ضفة الفرات ,وتودّع كل يوم عشرات من ابنائها الى المنافي والى مقبرة دار السلام شهداء ابرار قتلتهم همجية الحروب وغباء اولياء أمورهم الذين لا يريدون لهذا الوطن الحياة الكريمة والعيش الآمن ….
وهنا سأقدّم للقارئ بعض ما تضمنته قصائد (( اعترافات )) ، اذ وجدت فيها ما يكفي لتمثيل خلاصة تجربة الشاعر التي اغتنت بالتوجع والاستذكارات لما هو مفتقد في حياة المنفى من اشياء جميلة وذكريات تتوهج بالأشواق العاصفة، رغم تنقله بين بيروت ودمشق وعّمان ومونتريال التي كانت آخر محطات غربته القاسية , وقبل الخوض في تجربة ( اعترافات … ) الشعرية ينبغي أن أشير الى وضوح اندماج المنفى بالوطن، وتبادل الادوار في بينهما. فنرى ان بعض اعترافاته ( المونتريالية ) تتماهى مع أماكنه ورموزه الاثيرة في وطن النشأة والتكوين والمتاعب. ولاشك ان الشاعر استطاع بدربته وخزين مكابداته ان يضعنا على الدوام في جوهر أحاسيسه وانثيالات مواجعه التي تراكمت خلال ما يزيد على ربع قرن من الزمن الصعب بعد ان حط في ديار الغربة مثقلاً بتاريخ بلاد النهرين المجيد … ولابد هنا ان نشير الى ما كتبه السيد جاسم نعمة مصاول في تقديمه لـ ( الاسطورة اوليفيا ). ففيه تشخيص دقيق لمعطيات تجربة الشاعر اذ يقول :
وأما المنافي التي حفرت عميقاً في روح شاعرنا مازالت ندباً كبيراً يعالجه
بصبر مختلط بالحزن والأسى عبر قصائد فيها لوعة و ألم يبحث من خلالها
عن ضفة نهر كي ينام بسلام , ونلاحظ ان الغربة المكانية أثرت في بناء فكرة
القصيدة لدى الشاعر وارتقت بها فنياً ….
في حين يرى محمد حسين الاطرش ــ روائي لبناني ــ كتب مقدمة لــ ( اعترافات رزاق علوان ) ان :
اعترافات ابن علوان هي بوح الغريب. وبوح الغريب حنين للمكان , للوجوه
و للمواقف بوح الغريب ايضاً . بكاء استرجاع لصرخة الظلم , بوح الغريب
قد يكون لسان حال وطن كالعراق .. تمزقه سيوف الطائفية والقبيلة …
وازاء هذين الرأيين نجد ان رزاق علوان الشاعر / الانسان قد مازج في نصوصه بين المنفى / الوطن وبين الوطن / المنفى , واستطاع ان يمنحنا خلاصة تجربة عشرين سنة من المنفى الاختياري , ويقودنا برفقته لاكتشاف تفاصيل تجربة حاشدة بالألم والذكريات والحنين للوجوه التي فارقها وهي لّما تزل غضة نضرة , وسنلاحظ حجم المرارة في نصوص رزاق علوان الفاجعة خاصة تلك النصوص التي تكتشف من بين حروفها وكلماتها اعتذاراً مشوباً بالندم لأولاد واحفاد وزوجة تركهم جميعاً في جحيم الوطن تتقاذفهم خيبات الحروب والشهداء وحصارات الظالمين وتسلط الجهلة على مقدرات الناس واحلامهم .. وأرى ان نصه ( أيار .. ابنتي البكر )
يلخص محنة المنفى وكمية الحنين واعترافات الأب المغترب :
أيار / يا ابنتي البكر / صوتها يعبر قارات الحزن / ومحيط البؤس
الأطلس / الاشجار المميتة البحر الريح / عند طرائف وجعي / النشيط
بزرقة الألم / أيار / لازال صوتك طفولياً مدهش / يثلج حرقتي /
… يا ضوئي .. ونور عيني الواحدة / وسر الوضوء في التراب / أتعبني
زمن الخراب / تركت الوطن المهجور على اكتاف / ماهر وسامر وعامر
ويتداعى بوح اعترافاته مشوباً بحرقة الندم والاعتذار:
أنا على ابواب الانقراض / يا أيار / عند حافة الرحيل الأخيرة /
أنتظر بلهفة عاشق مجنون / جنح طير إلهي خفي / يوصلني لبابل/
وعتبات بيوتكم المقدسة / أين بيوتكم ؟ ….
ولنتصور معاناة الشاعر في غربته وهو يناهض أوجاعها وسواد لياليها وانطفاء سنوات الشباب على اعتاب مدن صقيعية ومحطات نائية ليس فيها من روح الوطن ما ينبض في الجسد الواهن الذي أتبعه التطواف والبكاء على ( درابين ) الطاق و جبران و الجامعين. ولحظات والتصعلك الجميلة في مكتب هلال الشيخ علي للعقارات والنوم على اعشاب حديقة النساء والسهر الباذخ في منتديات المعلمين و الاطباء والاقتصاديين , تلك هي اشياء الشاعر واحتراقات حنينه لأصدقاء صباه ومناكدات أحبته في مساءات الحلة ( السبعينية ) الزاهرة. اين انت ايها الشاعر مما تبقى من ذلك الشجن والاحتراق واللذائذ رغم قسوة الحياة وظروف العيش الصعبة , كان ابن علوان فيها ملكاً غير متوج يعبُّ الفرح الليلي مستلقياً على تراب ندي على ضفاف شط الحلة المتطامن مع أصدقائه الباحثين عن متعة السهر في انعطافاته الخضراء , ماذا فعلت بنفسك أيها الشاعر المشاكس وانت تقود قطيع هزائمك الى ثلوج مونتريال وأوجاع وحشتها أيكفيك هذه التذكرات لتعيدك الى مدينتك بعد ان شاخت وترهلت بفعل عقوق بعض الأبناء وجحود من أمسك بزمام امورها .. هل يكفي يا رزاق علوان ان تكتب مرثية لمدينتك الوادعة معتذراً مستذكراً مندداً ومن يسمع صرخاتك الان , الكلّ في غيهم ينعمون والحلة جثة هامدة يستدرجها القتلة الى منطقة عارهم هل هذا النص يكفي يا رزاق ؟
.. مرثية لمدينتي بابل ..
ايتها الانفجارات الطائشة المجنونة / كالبراكين / والكوارث
الطبيعية / تعالي / خذي الحبوب المهدئة / ألا تنفجرين ثانية/
/ …./ في مدينتي المشلولة المحطمة / حزنت شموع خضر الياس
في نهر الحلة / غطس كربها / … / دم الشهداء / وحزن
الاطفال الموتى / يتراكض في سباقات طويلة الأمد /لملم حمورابي
حقائبه / مسلته الشهيرة / وغادر المدينة احتجاجاً …
هل الحلّ في ان يغادر الابناء مدينتهم , كما غادر حمورابي , وكما فعلتا انت يا رزاق في اعترافاتك التي تفيض بوحاً واشتياقاً وحنيناً … لا اظن ذلك بالأمر الهّين.
شكراً فقد أثرت مواجعنا ونكأت جراحنا في مجموعة ( اعترافات رزاق علوان ) التي حملت بين سطورها تحيات أبن خذلته النساء وأبكاه الحنين لشغاف القلب , وأدمت سنواته مواجع المنفى والليالي الباردة … شكراً لكمية الألم التي اربكتنا وجعلتنا نحنُّ لتلك الأيام التي أغرقتنا بالجمال والمحبة والرفقة الطيبة.. وشكراً لــ رزاق حميد علوان الذي منحنا ما أفتقدناه في ايامنا الجاحدة هذه ….