د. رهبة أسودي حسين
جوليان بيندا (26 ديسمبر 1867 – 7 يونيو 1956) فيلسوف وروائي وناقد ثقافي فرنسي. اشتهر بكتابه الصادر عام 1927 (خيانة المثقفين). يواجه عمل جوليان بيندا الأساس، الدور المتغير للمثقفين في أوائل القرن العشرين، وهو الوقت الذي تم فيه تقويض سلطة المعرفة بسبب المصالح السياسية والأيديولوجيات. في نظر بيندا، كان هذا التحول بمثابة خيانة للمهمة الخالدة للدعوة الفكرية، مما أدى إلى عصر خطير حيث كانت السياسة، وليس العقل، هي التي توجه الفكر والخطاب البشري. فكتاب خيانة المثقفين بمثابة دعوة ملهمة، إلى الحياة المستقلة للعقل، وهو كتاب ذو قيمة دائمة تتجدد قراءته في كل زمن، فمشكلة العلاقة بين الثقافة والسياسة أو بالأحرى المثقف والسلطة حاضرة في حياتنا لا يمكن التغاضي عنها وإن تعددت صورها وتبدلت ألوانها.
إن فرض الاهتمامات السياسية على جميع الناس دون استثناء ؛ وزيادة التوافق في الأمور المتصلة بالمشاعر الواقعية ؛ورغبة الأدباء وقدرتهم على ممارسة الدور السياسي ؛وحاجة مصالح شهرتهم لممارسة لعبة الطبقة (العليا) المتفردة ؛ وازدياد ميول (المثقفين) ليصبحوا من الارستقراطيين وقبولهم لغرورهم ؛ واكتمال مبادئ الرومانسية لديهم ؛وتراجع المعرفة بالتراث ومذاهبهم الفكرية، من الواضح أن تلك الأسباب برزت من ظاهرة معينة تعد سمة أساسية في العصر الحاضر. وخلاصة كل هذه الآراء أن الواقعية السياسية عند (المثقفين)وهي ليست مجرد واقع سطحي نتج عن نزوات مؤقتة لهذه العصبة، إذ تبدو أنها جوهر العالم الحديث حيث يرى النقاد أن بعض الكتب لا ترقى أبدًا إلى مستوى عناوينها التي لا تُنسى. ويفعل آخرون ذلك، ولكن ليس بالطريقة التي توقعها مؤلفوها. أما كتاب جوليان بيندا “خيانة المثقفين”، والذي يشكل تدخلاً أساسياً في المناقشات التي دارت في القرن العشرين حول المسؤولية الفكرية، فهو النوع الثاني من الكتب. يلقي الكتاب في مياه السياسة الأوروبية المضطربة بين الحربين العالميتين، ولا يزال يطفو على الشاطئ كل عقد أو نحو ذلك، ويجذب القراء بدعوته المثيرة إلى حياة العقل المستقلة، متحررة من إغراءات القوة والسلطة. فالأكاديميون والصحفيون والنقاد وعلماء الأخلاق والمبشرون من جميع الأصناف. كانت خيانتهم لمهنتهم كرجال مخلصين لحياة العقل. فالاطار السياسي لاهتمام المثقفين شمل موضوعات (العنصرية والقومية والطبقية ) فاقتصرت مواقف المثقفين إزاء هذه الموضوعات تحت مسمى الواقعية السياسية (السياسة أولا). لقد اخذ المثقفون يعتنقون الفكرة العنصرية والقومية على طريقة السياسيين فصاروا يجعلون هذه المشاعر جزءا من وظيفتهم وأعمالهم والتخلي عن معتقدهم الإنساني الشامل لصالح الايمان بالتميز القومي – العنصري كما اتخذ بعضهم صفة طبقية مثل ( الفاشية أو الشيوعية) وقد حقق التوافق والتناغم بين اتجاهاتهم المختلقة فهم يكوًنون كتلة متناغمة ومترابطة فكتبهم ومحاضراتهم ومؤتمراتهم تدور في هذه الموضوعات.(ص77-79) كما أخذ المثقفون يؤيدون الدوافع المادية ضد الحياة الروحية وانعكس ذلك على سلوكهم تجاه الحكام بتأييد تسلطهم وجعل الاخلاق تابعة لمصالحهم فاحتٌقرت العدالة ومٌجدت العظمة، فهم يوجهون الناس الى الحياة المادية ونزواتها، فليس لديهم حاجة الى العدل أو الخير ويحثون الآخرين الى التهكم على الدين (ص 75-76).فاليوم تؤمن كل أمة بذاتها بل تضع نفسها فوق كل الأمم بتفوقها في علوم (اللغة والفنون والآداب والفلسفة والحضارة) بتعالٍ لم نشهده من قبل (بتحريض شديد من فئة المثقفين).( ص 94).وهناك عامل آخر لتعزيز المشاعر (القومية –العنصرية) هي التعرف على شموخ الأسلاف ، فتهتز المشاعر التي تتعلق بالحقوق التاريخية لخلق (الوطنية – العاطفية) . فيجد جوليان بندا أن تفاعل المثقف مع الأحداث السياسية يتضمن ثلاثة مواقف وهي :تبني (المثقفين للمشاعر السياسية) وهو الموقف الذي يتمثل في الانغماس بالحدث السياسي وتبنيه بصورة تصل الى التعصب ورفض الآراء التي يختلف معها.(ص115) وأما (وضع المثقفون أعمالهم في خدمة المشاعر السياسية) بتوظيف المثقف لموهبته في خدمة الحدث السياسي، وفي هذه الحالة نحن نقف أمام مثقف يعمل على إثارة المشاعر السياسية لدى عموم الناس ضمن مواقف (المحاباة والتحيز) لقضية سياسية معينة وخدمة لفكر سياسي معين مع شدة طبيعة (المحاباة والتحيز).(ص 142) وأما أن يكون (المثقفون يمارسون لعبة المشاعر السياسية على حساب معتقداتهم) فيكون تفاعل المثقف لخدمة الحدث السياسي على حساب (المعتقد الفكري) للمثقف فتتغير مواقفهم على وفق الحدث السياسي، فيعملون على دعم الأنظمة الاستبدادية والسير على ما ترسمه السلطة من منهج (فكري –أيديولوجي) (ص154). إن قرننا سيُسمى بحق قرن التنظيم الفكري للكراهية السياسية. بهذه الجملة الواحدة، ندرك أن جوليان بيندا هو معاصرنا، لأن تفاعل صور المثقف الثلاثة أعلاه هي تجسد طبيعة علاقة المثقف بالسلطة لمصالح شخصية يتم تأطيرها بألوان (قومية –عنصرية – طبقية).
إن الكراهية التي تدور في ذهنه – العنصرية والقومية والطبقية – أصبحت كراهية لنا لأن غايتها عدم الفصل بين السياسة وتوظيفها لقضايا عادلة وبين علاقة (انتهازية) بين المثقف والسلطة. وهنا نستحضر سارتر في كتابه (ما الأدب) حيث يشير الى بيندا منتقدا إياه بقوله: أجيب من يتحدث عن خيانة الكاتب(المثقف) لرسالته بأنه ليس هناك من كٌتاب بين المضطهدين، فالكٌتاب بهذا المعنى هم بالضرورة طفيليو الطغاة من الطبقات والأجناس( ص 75) فليس جميع القضايا السياسية تدخل ضمن علاقة انتهازية لمثقف يوظف نتاجه المعرفي والإبداعي لخدمة غرض سياسي محدد . فالمثقفون الذي ينشدهم جوليان بيندا: طبقة من المفكرين المنفصلين سياسياً الذين يبحثون عن المُثُل الأبدية للحقيقة والعدالة والجمال. فهم أولئك الذين لا يسعون وراء المصالح والمكاسب، بل يجدون سعادتهم في ممارسة فن أو مزاولة علم أو البحث في نظريات ما وراء الطبيعة، وتتلخص سعادتهم في الترفع عن ملذات الحياة، ومن ثم يعبر عن ذلك بطريقة خاصة فيقول: (( إن مملكتي لا تنتمي الى هذا العالم)). (ص116). وهنا لابد من أن نستحضر أمام مفهوم جوليان بيندا مفهوم المثقف عند إدوارد سعيد في كتابه (صور المثقف): إن من الصعوبة تصغير دور المثقف إلى مهنة محضة، لا يهتم بعمل معين فالموهبة الحقيقية للمثقف تمكنه من توضيح رسالة، أو موقف أو فلسفة، بألفاظ واضحة لجمهور ما، ونيابة عن هذا الجمهور. وتجد الحكومات أو الجهات الأخرى صعوبة في استيعاب المثقف الذي يؤمن بالمبادئ العمومية التي هي من حق البشـر ومحاربة الانتهاكات التي تقف ضد هذه المبادئ.(ص28-29) فكتاب (خيانة المثقفين ) يبحث في طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة. إن العامل السياسي عند بيندا كان ضمن تأطير هذه العلاقة، ولكن تبقى القضايا العادلة بجميع تسمياتها (سياسية – اجتماعية – ثقافية) ضمن بحث المثقف، وليس بالضرورة تدخل ضمن أهداف (قومية –عنصرية – طبقية) لخدمة السلطة بمختلف تسمياتها ضمن علاقة المثقف بالسياسة.
قراءة في كتاب : جوليان بيندا… خيانة المثقفين
التعليقات مغلقة