الرواية والتكثيف الرمزي والانفتاح الدلالي

د. سمير الخليل
تمثّل رواية (اخترتُ إلها) للروائي عبد الزهرة علي أنموذجاً للرواية القصيرة المكثفة التي تتخّذ من أسلوب الإختزال والتكثيف مرتكزاً لها، وعلى الرغم من هذه المساحة الإختزالية والميل إلى التكثيف الشديد فإنّها قد انطوت على تجسيد أحداث وانعطافات ودلالات لمراحل تاريخية متعدّدة، وتعمّق كثيراً في رصد الواقع المحتدم والمأزوم والرّث، وتأطيراته الملتبسة على وفق صياغة سردية للكشف عن بؤر الاختلال والارتكاس والتأزم والرؤى المعتمة التي تحيط بكلّ تفاصيل الحياة والشخصيّات والأمكنة من أزمات وتداعيات ومفارقات استطاع الروائي فيها أن يكون نابهاً ذكيّاً، ويرتكز الخطاب السردي في الرواية على وجود كثير من الثيمات والمضامين الإنسانية وهو يسلّط الضوء على فكرة التسامي الديني والإنساني، ومحاولة وضع رؤية متوازنة ودالّة للجمع بين الأديان والمذاهب، وجعلها تنصهر في بوتقة التوّجه الإنساني، ورقي العقل وتحقيق تناغم يلغي كلّ الفوارق والتطرّف، ويسعى الجميع إلى الانفتاح وقبول واحتضان الآخر.
وتكشف سيميائية العنوان عن هذا المتجّه الإنساني والفكري ويصبح (الإله) أو الدين العظيم هو المرتبط بدين الإنسانية، وخلق هوية عابرة لكلّ هذه الفوارق التي من شأنها بثّ روح الكراهية ومحو الآخر ممّا يؤدي إلى تلاشي الهوية الإنسانية والوطنية ويتحوّل المجتمع إلى شريعة الغاب، ويمثّل (آدم) بوصفه الشخصيّة الرئيسة أو المركزية في الرواية انموذجاً لرقي الإنسان، وبحثه عن التناغم بأرقى أشكاله فهو يجسّد المثل الإنسانية بغض النظر عن الانتماء الديني والتشظّي الهوياتي ولم يصل إلى هذه الذروة من التسامي والتوازن إلاّ بعد مجاهدة وصراع داخلي، واسئلة وجودية وبحث مستميت عن فكر روحاني ومعرفي يكشف عن الحقيقة المتعالية والسامية، ونبذ كلّ أشكال القبح والإرتكاس والرؤى المعتمة ويكشف أن التنوير الحقيقي يكمن في اكتشاف أسرار النفس وإيمانها بيقين إنساني، يضعها في موقع الترّفع والنبل والإرتقاء، ويجعلها تكشف أنّ النزعة أو العروج إلى فكرة الإنسانية هو مفتاح العثور على النفس وعلى الآخر والتصالح معهما، ولعلّ اسم (آدم) يغطيّ مساحة الإنسان أينما يكون فهو الإنسان بلا اسم محدد، فآدم في الرواية مسيحي يعيش في منطقة الدورة وتحديداً في حي الآثوريين وينتمي لأسرة تؤمن بتعاليم الدين المسيحي، وعمّه مطران متعمّق باللاهوتية ويعمل في كنيسة في مدينة الموصل وعلى الرغم من عمل أبيه موظفاً غير أنه أراد لآدم أن يسلك مسلك العم، لكنّ آدم استعرت فيه أسئلة ورؤى، وتحرّكه ذاته لاكتشاف حقيقة النفس وحقيقة الوجود، وحقيقة البحث عن التوازن والإعتدال وعن رقيّ الذات وتجاوز اليقين التقليدي المنغلق، وتبدو شخصيته تميل إلى البحث عن الحقيقة السامية ممّا يجعله في صورة التمرد من وجهة نظر البيئة المحافظة التي يعيش في كنفها، ويقوده هذا التفكير التنويري إلى أسئلة وبحث دائب عن كثير من الأفكار والتساؤلات المرتبطة بالدين والواقع والذات والآخر، وهو يشعر بأن الوصول إلى مرحلة اليقين تقوم على وجود الإنسان المدرك والمجسّد للنقاء والعشق الحقيقي للعدالة مما يجعله يعيش في خضم دوامة من الأسئلة والقلق وبحثه عن اليقين والتوازن وإمساك الخيط الذي ينقذه من هذه الأزمة التي غالباً ما يكابدها الإنسان الحقيقي المنتمي إلى انسانيته قبل كلّ انتماء: “كنتُ أدور مثل فراشة حول النار، فإنْ اقتربتُ من الإله الذي أرغب احترقت، وإن ابتعدت عنه ضاع حبي وأملي، بقيت متردّداً أو خائفاً وقلقاً، بانت قبالتي صورة الإنسان الهشّة واضحة وجليّة، عاودت اصراري لتشكيل روحي الذائبة في العشق، أن أكون عاشقاً للإله كما أنا عاشق لحبيبتي…” (الرواية: 6).
والمقطع السردي يكشف عن واحدة من أزماته التي وجد نفسه في مخاضها القاسي حين قادته مشاعره المتأجّجة إلى عشق فتاة تسكن بالقرب منهم واسمها (حواء) ويكتشف أن هذا النوع من الحب المحرّم تحاربه رجالات الأديان، فكيف يعشق المسيحي الكاثوليكي فتاة مسلمة في مجتمع قائم على أوهام الصراع وخلق الفوارق وانتاج الكراهية وعدم قبول الآخر؟ متناسين البعد أو الفكرة الإنسانية التي ينطوي عليها الحب بمختلف أشكاله وتجلّياته، وقد عُدَّ (آدم) متمرداً على التقاليد والوصايا فهو لم يكتفِ بعدم الميل إلى الطقوس والوصايا الدينية والتقاليد الكنائسية بل ارتكب إثماً بعشقه لفتاة مسلمة، ويباغته هجوم أم (حواء) وتهديدها له بأن عندها أربعة أخوة سينالون منه، وحين صرخ بوجه أهله أنه يحبّها كان الرد قاسياً: “- ماما… أحبّها.. حاولي مع أبي أرجوك… – كافي عاد تعّبتني، انت تطلب المستحيل. صرخت بصوت منكسر: – علينا تحطيم هذا المستحيل الذي صنعناه بأيدينا يا أمي. قلت لها وأنا أمسك رأسها وأقبّل جبهتها البيضاء التي بانت عليها تجاعيد السنين: – اسكت بلا كلام… كفى صبيانيّة، أنت شاب مشاكس تريد أن تحرق المنزل بنيران حماقتك…” (الرواية: 32)، وهذا هو سبب ابعاده إلى الموصل وإلى عمّه المطران وإلى أجواء الكنيسة، ونشير إلى أن اسم (حواء) فيه دلالة عامّة على كل النساء مثل (آدم) الذي يدل على الإنسان عموماً وقبل أن نكمل تفاصيل المتن الحكائي والحبكة الفنيّة لابُدَّ من تأشير بعض الظواهر الفنيّة في البنية السرديّة فضلاً عن أسلوب الاختزال والسرد المركّز، فإن الروائي عمد إلى تقسيم الرواية إلى فصول ووظف لكلّ فصل عنواناً دالاًّ مرتبطاً باسم شخصيّة من شخصيّات الرواية مثل (آدم) (حواء) (جانيت)، (الدرويش)، وهناك عنوانان معبرّان عن أحداث الرواية هما (الصراصير) و (العودة إلى بغداد)، وكل فصل يكشف عن طبيعة ودواخل الأحداث المرتبطة بالشخصيّة وبشكل اختزالي أيضًا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة