علي حسن الفواز
الوجود الثقافي لا يعني هروباً للغيمة، أو الاختباء في الفراديس المجازية، أو حتى الخروج الى البرية، انه يفترض المكوث في المكان أولاً، وفي المعنى ثانياً.. هذا الافتراض هو الذي يعطي القوة لهذا الوجود، إذ يمنح الكائن خصوصية أن يؤسس وأن يرى، وأن يبحث، وأن يحسّ، وأن يطمئن، وأن يفلسف ما حوله، وأن يتلمس التفصيلات في اللغة وفي الحرية، واللذة… كل تلك الأشياء القابلة لأن تكون كلمات صالحة للاستعمال هي جزء من هوية ذلك المكان ومن شروطه ودلالاته.
المكان الشرقي/ العربي/ العراقي يرتبط بصيانة الوجود، فهو قرينة المقدس، والمعنى، والهوية، والقلعة، والجدار، والباب، اذ يتجوهر في فكرة الوطن، والبيت، والعائلة، والجماعة، والقرابة.. والذات في هذا المكان تتماهى كثيراً مع تلك الفكرة المتشيئة، حدّ ان الحديث عن الوجود لا يتبدى الا عبر تذويب الذات في تكونات الجمع، لأننا لم نستطع أن نصنع فكرة خالصة للذات، والذات التي نتحدث عنها في ما نكتب هي ذات متعالية، وشعرية وليست واقعية..
الحرب اليوم على العراق/ المكان/ الوطن، والمكان/ المقدس تعبّر في خطابها عن ممارسة مضادة للوجود، فهي تنتهك كل مستويات الألفة مع وحدة المكان، والجماعة، وتثير ما هو مفارق وقاطع لأي معنى انساني للوجود في لذة المكان واطمئنانه، وربما يكون خطابها العنفي والارهابي هو علامة قهرية لتخريب المكان والتجاوز على قدسيته، وعلى ألفته..
حرب الأمكنة تحولت الى حرب في الكلام، وحرب في الهوية وحرب في الوجود، وبالتالي فانها وضعتنا ازاء نسق مضمر يتفجر عن رعب التاريخ القبيح، ورعب الجماعة ورعب الأفكار، والتي أعادت- في الحرب- صوغ الكثير من أنماط تفكيرها، بوصفها أفكاراً إكراهية وضدية ومهددة، تقوم على شيفرة العصاب، أي تلك الشيفرة التي تعبّر عن مثيولوجيا (فكرة الجماعة النقية) تلك التي توهمها بعضهم بانها الفكرة المضادة للتأويل والاجتهاد في النص وفي استنباط الأحكام، والتي تنتهجها مرجعيات معينة، وثقافات معينة..
هذا الاختلاف هو جوهر فكرة موت الذات، لأن الافكار القهرية، تربط وجود الكائن بكينونة الجماعة وليس بكينونته الانسية التي خلقها الله بوصفها جوهراً لذات الانسان، والتي تعدّ مصدراً لوجود الجماعة، ومصدراً لقوتها…
ما يحدث اليوم على أرض العراق التاريخي هو مضاد للتاريخ تماماً، ومضاد لأصل التشكّل التاريخي الذي تبدت عنه الدول السياسية والتشكلات الثقافية العقلية والكلامية، تلك التي اصطنعت لها بيوتاً للمعرفة والحكمة، وجماعات وفرق للجدل والمقايسة والاختلاف، والنظر المتعدد للأحكام في المفاهيم والنصوص والأفكار.. وأحسب ان خطورة هذا (المايحدث) يكمن في تهديده للوجود، بما فيه الوجود الثقافي الذي ارتبطت به أفكارنا وحياتنا ومعانينا، لأننا جميعاً نفكر باللغة ذاتها، ونشتغل بالنصوص ذاتها، حتى وان اختلفت الأحكام والتأويلات فيها، وموت النص المفكر به هو أقسى عناصر ما يهدد وجودنا كأمة تبحث عن صيرورة تمأسسها في دولة قابلة للوجود….