كفاح محمود
يتذكر الكثير من البغداديين جيدا ذلك المشهد السينمائي الذي مثلته مجاميع من كوادر حزب البعث في الساعات الاولى من انقلاب شباط 1963م، ورفعهم لعشرات الصور والشعارات المؤيدة للزعيم الاوحد عبدالكريم قاسم رئيس وزراء العراق انذاك على ظهر المدرعات والدبابات، في واحدة من اكثر الخدع سذاجة واثارة في وقتها، وقد انطلت السالفة على الربع كما تقول الدارجة العراقية، وراح الزعيم بين الرجلين مقتولا وسط هتافات الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة!
كما لا ينسى العراقيون ايضا ميكافيلية كثير من القيادات المهمة لهذا الحزب وسرعة تلونها بالالوان المطلوبة والتي تساعدها على الامساك بالكرسي مهما كانت تلك الالوان داكنة او فاتحة، ولعل ما قاله امين قيادتهم القطرية في مطلع ستينيات القرن الماضي علي صالح السعدي، عن ان القطار الامريكي هو الذي حملهم الى السلطة، اضافة الى ما شهدته مطابخ حكمهم من تحالفات مع قوى سياسية واجتماعية وحتى دينية، اكدت ان لا صاحب لهم ولا مبدأ الا مصالحهم وهي تكمن تحديدا بالسلطة، وهنا الحديث والتوصيف لا يشمل الكل فقد كان الحزب، بسبب كونه حزبا يقود السلطة لعشرات السنين ظاهرة اجتماعية، ضمت مئات الالاف من المنتسبين الوظيفيين لصفوفه دونما أن يكون لهم أي علاقة باخطاء وجرائم العديد من قياداته، وكانوا من خيرة كوادر البلاد واكاديمييه ورجال عسكره وادارته واقتصاده وفنانيه وشعرائه وادبائه، بحكم تراكم الزمن من مطلع الستينيات وحتى مطلع الالفية الثالثة!
اقول قولي هذا وانا استخدم منذ نيسان 2003م مصطلح سقوط الهيكل الاداري لنظام صدام حسين، وبقاء نظامه الايديولوجي والاجتماعي والسلوكي حتى في كثير من الفعاليات السياسية العاملة الان في ساحة الديمقراطية العراقية، فقد سارعت تنظيمات وكوادر هذا الحزب الى الانخراط في صفوف كثير من احزاب ما كانت تسمى بالمعارضة واصبحت احزاب السلطة فيما بعد، بل ان الكثير ممن تم اجتثاثهم وقطع ارزاقهم من خيرة رجالات الجيش والاجهزة الخاصة والحزب انضموا الى حركات متشددة مثل القاعدة وبناتها، او اسسوا واجهات وحركات بتسميات وهمية يكمن ورائها كثير من تنظيمات وتشكيلات النظام السابق، وخاصة كوادر الجيش والتصنيع العسكري وضباط المخابرات والامن ورجال مكافحة التجسس والارهاب وفدائيو صدام وغيرهم، مثل جيش محمد والجيش الاسلامي ورجال الطريقة النقشبندية، والتي انضوت جميعها فيما يسمى اختصارا بـ داعش التي تتناغم في اهدافها الوحدوية مع ما كان يخدر به البعثيون رومانسيو الوطن الاكبر من المحيط الى الخليج.
واليوم بدأت العملية تأتي أكلها كما يقولون، فقد اندفعت عدة مئات من تلك التشكيلات وبشكل منظم لا يثير الدهشة، كونه ينتمي الى تنظيم سابق يعمل منذ سنوات في عدة مدن وخاصة في الموصل لكي تحتضنهم عدة الاف من الخلايا النائمة، التي كانت تحصد شهريا ما بين ثلاثة الى خمسة ملايين دولار كضرائب على مختلف المهن والاعمال والشركات وعيادات الاطباء والصيادلة، ناهيك عن حصتهم في الوقود الخارج من مصافي بيجي ومنذ عدة سنوات، بما أهلهم في غياب مؤسسات حقيقية للدولة سواء عسكرية او امنية او ادارية، أن يقودوا المحافظة من تحت الارض وأن يخترقوا تلك المؤسسات ويدخلوا الموصل على خلفية كراهية شديدة لكل قوى الجيش والامن والشرطة التي اهانت المواطن وثلمت كرامته تحت طائلة الحفاظ على الامن، وعلى انقاض فساد مستشري في معظم مفاصل الدولة، بما حقق مقولة ان يحكمنا الشيطان افضل من هؤلاء الجبابرة!؟
لقد عاد البعث ثانية، لكن ليس بقطار امريكي او تحالف مع الشيوعيين او البارتيين هذه المرة كما فعل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بل على صهوة القاعدة واخواتها او بناتها، سواء كانت داعش او النصرة او حتى الجن والشياطين، كرسي السلطة كانت وتبقى بوصلة الأحداث عندنا ولو جاءت على أنقاض وطن وشعب لطالما هتف باسم البعث فلم يعرف منه غير الذل والهوان، وأما داعش فتبدو اليوم الخلية الصاحية جداً في تطبيق اجندات مذهبية داخلية وإقليمية، والمتواطئون معها كثر والمال متوفر في جيوب الجيران … فأهلا بالبعث « المدعشن « وأهلا بداعش « المبعوثة « حتى إشعار آخر!؟