جمال جصاني*
لم يعد أمر التدهور الشامل الذي لحق بشتى مجالات الحياة المادية والروحية في هذه المستوطنة القديمة سراً، وقد تناولنا ذلك مع غير القليل من المهتمين بهذا الشأن مراراً. وكما هو الحال مع من ينجو بمحض المصادفة من قبضة تجارب واسعة ومبرمجة لاختبارات السموم على جسده وعقله ووجدانه، كذلك هو حال السواد الأعظم من شعوب وقبائل وملل هذا البلد المبتلى بعد «التغيير» ربيع عام 2003. ومن تابع ما جرى بعد ذلك الحدث الذي انتظرناه طويلاً (سقوط الدكتاتورية) وكيف تحول من حلم الى كابوس، بفعل البدائل والخيارات التي فرضت نفسها لحظة زوال النظام المباد، يدرك الحاجة الملحة وغير القابلة للتأجيل لعملية (تقيؤ) واسعة وعاجلة، لكل ما ترسب من سموم في عقولنا وضمائرنا وذاكرتنا المشوهة. هذه هي الجولة الثالثة من الانتخابات النيابية، والنتيجة لم تتمخض عما يشير الى ان القوم يدركون شيئاً عن الطوفان الفعلي الذي يحيط بهم، حيث عادت الى مواقعها في البرلمان المقبل؛ القوى والكتل ذاتها التي أهدت العالم أول برلمان في تاريخ الديمقراطيات والانظمة الحديثة يعجز عن اقرار القانون الاقتصادي الأهم للدولة والمجتمع (الموازنة)..؟.
ولا عتب على من يتبجح من نجوم وفرسان حقبة ما بعد الفتح المبين، فهم جميعاً منتصرون ولا يفارقهم الحق قيد أنملة في ادعاءاتهم ومشاريعهم عند اطراف الوليمة الازلية، لأن الاعراض المرضية لحمى التسمم الشامل التي عصفت بجسد وروح الوطن القديم تستوطن سوادهم الأعظم. وما الحلول والصيغ والبدائل التي يقترحونها من نسيج الشراكة والاغلبية والفيدرالية والكونفدرالية والتقسيم و… الا مجرد انبعاثات عابرة للحالة المرضية التي يعيشونها، فلا المكون (س) بمقدوره وطبقاً للهذيانات التي أدمن اجترارها بناء ولايته الخاصة، ولا المكون (ص) بافضل حال منه، ولا المكونات والطوائف والملل وعشائر المجتمع «المدني» التي استردت فتنتها وسطوتها عبر غزوات الصناديق ولوثة العبوات البنفسجية. لا خيار أمامنا كي نسترد توازننا وعافيتنا المهدورة، غير الاشتراك بماراثون التقيؤ جماعات وافرادا، كي نفرغ جوفنا من كل تلك الموروثات والفضلات السامة التي التهمناها أو اجبرنا على اجترارها في ماضينا القريب والبعيد، بعد ذلك يمكن انتظار سلوكيات وممارسات اخرى تنسجم والمصالح الحيوية لشعوب وقبائل وملل هذا الوطن الذي عصفت به جحافل العقائد والمفاهيم السامة طويلاً..