مرتضى كزار.. دهشة السرد الروائي

عبد الكريم كاظم

1

لا تكتب رواية «السيد أصغر أكبر» سيرة المدينة أو الأفراد ولم توضع في خدمة توليد الكلمات أو توليفها تنميقاً فحسب، بل لغاية الدهشة أو الإبهار الجمالي والفني والتداعي الذي يخرج، عبر استطراداته، عن الخط الأساسي للرواية أو يُدخل السرد في دوامة الحلقات السحرية، في طواف حول المحور الوصفي، الذي غايته أن يستوفي التفصيلات المتصلة بالمكان، بحيث يكون التداعي السردي مقصوداً لذاته، وموظفاً للإنابة عن الأحداث والشخوص الروائية، ذلك أن رواية من دون حدث أو أمكنة وأزمنة وشخوص، من دون بؤرة ضوئية للفكرة الروائية نفسها، من دون امتلاك كامل للمتخيّل وتجسيده فعلاً تخييلياً، تبقى في إطار الهلاميات السردية المكررة، في هذا النص نتلمس أيضاً كتابة تشرح علاقة الرواية بواقع الحياة مثلما توصف علاقة الرائي بالمكان وشخوصه.

في رواية «السيد أصغر أكبر» ثمة معرفة بيئية ومكانية موظفة في خدمة النص الروائي، فضلاً عن قدرة الروائي على نسج خيوط روايته بذهنية تنمُّ عن تجربة ومعرفة وإلمام بتأريخ مدينة النجف، بشوارعها و»درابينها» الضيقة وقبابها وأيقوناتها ومقبرتها وسراديبها، التي تمثل مسرحاً مفتوحاً لنصه الروائي، وكذلك بجغرافيته وصولاً إلى النفاذ، بعين الرائي، إلى أسرار المدينة وطقوسها وعاداتها، حكاياتها وتناقضاتها، فالقارئ ومنذ بداية الرواية يوضع في الأجواء النجفية الخالصة وبأسرار الدهشة المتصلة بالبقاء الميثولوجي للأموات، وبشغف غير قليل يتابع الحدث الواقعي الممزوج بالأسطوري والمتواصل مع الرمزي والتأريخي والغيبي أيضاً، متابعة فيها انجذاب ناجم عن تشويق لمعرفة مدينة النجف، وفنية تكفي لبناء الحدث الروائي وتطوره ونمو السياق، المتصل بالشخصيات والتأريخ، نمواً رمزياً يمنحها، كلها، الحياة المطلوبة، في حدود أدوارها المرسومة بدقة أو بقصدية وعفوية تمحى الحدود بينهما، التأريخية حصراً، فلا تُلحظ إلا عن طريق السرد المتصل بالرموز والغرائبية والسحر والدهشة وحتى المكان (مدينة النجف) الذي يؤرخه الروائي بوعي صارم مثلما يتعاطى مع وقائعه التأريخية بالوعي نفسه، لتنبثق منه، لاحقاً، أحداث روايته، ومردّ هذا إلى تمرّس أو تجربة ذاتية مأخوذة كلها في الحسبان، وانطلاقاً منها، أعني التجربة، فقد تشكلت شخصيات الرواية تشكلاً تأريخياً وصارت لها سلوكياتها وتحركاتها وحواراتها المتمايزة إلى درجة نعرف معها العوانس: (واحدية ونظمه ومعينة) بنات السيد (خنصر علي) وحفيدات النّسابة (السيد أصغر أكبر) وكذلك زوجته (شمخة) والدة العوانس الثلاث التي تقوم بتطريز أسمائهن في قفا القماشة الخضراء بخيوط من الوبر خوفاً من التزوير ومن التلاعب بشجرة العائلة والجدة (رومية) كذلك شخصية (ياس السرابي) والمحامي (حسين تموزي) الذي يحصي لهن، أعني العوانس، ما بقي من إرث السيد أصغر أكبر لأنهن الوريثات الشرعيات له.

2

يظهر، الروائي مرتضى كزار في روايته، كشاهد صامت على ما يجري من حكايات، ليس في مدينة النجف فحسب، بل لما حوله أيضاً، وتتيح شهادته الروائية في رحابتها الرمزية أو رؤيتها الأنثروبولوجية المغايرة إلى إدراك تأريخ المدينة التي تستعلم في أن الأشياء والتفصيلات وحتى الجزئيات المتصلة بالتأريخ أو الجغرافيا ليست إلى تبدل سريع فحسب، بل ومزور أيضاً وأن الطريق إلى أي تغيير محتمل، في الوعي أو الرؤية، هو طريق طويل، وفي هذا الاستعلام غير المحايد ظاهرياً تبدو الرواية وثيقة تكشف عن مكان يبحث عن تأريخه الضائع وسط ضياع الرؤية أو الحقائق، ما دام التزوير هو الذي يقود حملة الإقصاء ضد العقل التنويري، وفي هذا صدق معرفي وروائي ولغوي، فالتزوير سعى لأجل طمر التأريخ والوقائع المتصلة بالمكان، كما استطاع الروائي أن يعمّق خطوطاً لمدينة النجف ومعالمها ويسلّط الضوء الكاشف على كل الزوايا المعتمة فيها، وينبش، ليس أمعاء مدينة النجف وحدها، بل أمعاء التأريخ ويعرضها علينا عرضاً بانورامياً، مذهلاً في سرديته وغرابته وتخبّطه أيضاً، كما استطاع كاتبها أن يرينا الأحداث والمكان والشخصيات عبر عدسة مكبرة كشفت أغوار الشخصيات وزمانها وتناقضاتها والتأريخ، في فهم خلفية كل ثيمة وحدث أو مشهد وحوار، يتصل بالرواية، وفهم لسلوكية أو نفسية كل من هو في إطاره التأريخي والفردي والرمزي.

ثمة إشارات روائية تشبه مسيرة مقدسة إلى التأريخ أو ماضٍ قريب هو في حكم النسيان أو التزوير، كما أسلفنا، هذه الإشارات التي وضعها الروائي لاستفزاز الذاكرة والذهاب بالقارئ إلى النقطة التي يستطيع عن طريقها، أيضاً، النبش في ذاكرته المتصلة بالمكان والزمان معاً، من هذه الإشارات، انتفاضة العام 1991 وعلاقتها بدعوة المؤرخين لكتابة شجرة (نسب) الرئيس، حكاية الجنرال (باشيرو) الضابط في القوات المحتلة التي دخلت العراق العام 2003 وصوت (الجلجلي) وهو الشخص الذي ينادي أمام الجنازة في مدينة النجف التي فيها أكبر مقبرة (وادي السلام) وتحتوي على أكداس الموتى من كل بقاع العالم، وسفينة الكابتن عباس القادمة من الهند والأهواز التي يأتي وضعها في ص 27 من الرواية، وقد رست هذه السفينة على شاطئ بحر النجف سنة 1871 ميلادية، فضلاً عن تلك القرية الافتراضية (بغلة عباس) التي تتماهى، على مستوى الدلالة، مع قرية الروائي وليم فوكنر في «الصخب والعنف»، قرية (يوكنا ناتوبا)، وكذلك مع قرية (موكاندو) للروائي غابرييل غارسيا ماركيز في «مائة عام من العزلة»، أو (بصرياثا) محمد خضير، إضافة إلى قرية السياب (جيكور) التي كتب عنها: (جيكور شابت، وولى صباها، وأمسى هواها رماداً). هذه الإشارات، المتصلة بالمكان الحقيقي أو الافتراضي والمتخيل، هي في الوقت نفسه تفصيلات نستها الحياة مثلما طمرتها عمليات التزوير المنظمة لتأريخية الأحداث ودلالاتها الرمزية، هذه الإشارات تتماهى في الوقت نفسه مع سؤال الروائي الذي لا يخلو من المرارة أو الألم المحيط بالراهن العراقي، سؤال يدفعنا لا للبحث عن إجابة ما بل لطرح المزيد من الأسئلة المتصلة بالراهن: (فبأي كذبة تعيشون؟) ويظهر سؤال الروائي سؤالاً لا يهجر عالم الراهن العراقي أو خرابه، لأن الرواية تتحدث عن عالم لا يمكن مقارعته إلا بالأسئلة والنقد والكتابة.

3

الكلام الروائي عن المكان هو كلام أيضاً عن التجربة الذاتية للروائي، أي عن منظومات فكرية وتقاليد اجتماعية موروثة ومكتسبة أو معتقدات وقيم متنوعة ومشتركة لمجتمع ما، وبالنظر إلى الكتابة الروائية والأدب العراقيين فهما ينتميان إلى تقاليد ثقافية كان زمنها الذي انفتحنا عليه هو زمن المعرفة والفنون ومكننة المجتمع، والتنظير لحرية الفرد في التعبير والكتابة واعتماد مفاهيم معرفية جديدة وإقامة البنى الفكرية المستقلة بوظائفها النقدية وآليات علاقاتها اللغوية، وهو زمن سُمّي بالمعاصر أو الحديث وميزته نظرات فلسفية ومعرفية وفكرية أسقطت مفهوم الكتابة التقليدية ومعايير النقد التقليدي، كما انها حيّدت المعرفة بكل أشكالها وتداخلاتها ومصادرها، أما الحقل الروائي فهو حقل مختلف والكلام على نقدنا، للرواية، وأدبنا، المتنوع، فهو كلام أيضاً مختلف؛ لأنه لا ينتمي إلى النقد الذي يحكم النصوص بمعاييره التقليدية. في ضوء ما تقدم يظهر لي أن الكلام عن النص الروائي العراقي الجديد يضع القارئ أمام خطورة واضحة، تتمثل هذه الخطورة في وضع النقد المعرفي أو القراءة النقدية المغايرة في علاقة مقاربة مع تجربة الكتابة الروائية نفسها، فضلاً عن أن القراءة النقدية تطالبنا أن نقارب المعاني المشتركة مثلما تطالبنا بالبحث عن استقلالية اللغة بكل مدلولاتها ومرجعيتها، ومن هذا المنطلق كان معيار النص الروائي هو مقاربة هذا المرجع، أي إن معيار الرواية في أحد بنوده المرتبطة بالمعنى، كان يتحدد كعلاقة محاكاة أو تماهي بين المعاني ومرجعها أو المكان ومدلولاته وما عملية الكتابة الروائية في رواية مرتضى كزار (السيد أصغر أكبر) سوى حركة ارتداد أو نكوص باتجاه المرجع الأصيل، المتصل بالمكان، أو المصدر الموصوف، المتصل بالمجتمع وشخوصه وتقاليده، ولأن هذا الارتداد هو ارتداد معرفي باتجاه المعنى المجرد للكتابة الروائية الجديدة التي تتطلع إلى ما هو خلف مظاهر المجتمع أو الحياة لاستكناه أسرارها وزواياها.

إذاً الكتابة الروائية مرآة للحياة ويجب أن تلائم الحياة الجديدة وتعبّر عن حاجاتنا المعرفية والجمالية، فلا يعيش الكاتب الروائي في تناقض متصل مع حياته الواقعة، يحس شيئاً ويكتب شيئاً آخر لا علاقة له بالمعنى واللغة أو المخيلة والتجربة.

هامش: رواية: السيد أصغر أكبر/ مرتضى كزار/ دار التنوير 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة