الأبعاد ما بعد الحداثية في قصيدة ” أسطورة السائر في نومه ” لمحمود البريكان

د. عادل الثامري

تمثل قصيدة “أسطورة السائر في نومه” للشاعر محمود البريكان نموذجاً متفردا في تجسيد المفاهيم ما بعد الحداثية في الشعر العربي المعاصر وهي بمثابة استكشاف رائع للوعي البشري والوجود في العالم الحديث.. تتميز القصيدة بقدرتها على تجسيد حالة التشظي والتفكك التي تعيشها الذات المعاصرة، باستخدام تقنيات شعرية وأسلوبية تتوافق مع النظريات ما بعد الحداثية. يمكن تتبع هذه الأبعاد في القصيدة من خلال مستويات متعددة ومتداخلة، تكشف عن عمق الرؤية الشعرية وارتباطها بالقضايا الجوهرية في الفكر ما بعد الحداثي. تنسج القصيدة معًا طبقات متعددة من المعنى، وتتحدى الأعراف الأدبية التقليدية بينما تنخرط في أسئلة عميقة عن الهوية والواقع. عبر استخدامها المبتكر للغة والبنية، تخلق القصيدة صورة معقدة للتجربة الإنسانية المعاصرة، تتميز بالتجزئة وعدم اليقين والتساؤل الوجودي.
يؤسس البريكان في قصيدته لحالة من التشكيك المنهجي في الثنائيات التقليدية التي تحكم الفكر الإنساني. فالشخصية المحورية في القصيدة تتحرك في منطقة وسطى بين الوعي واللاوعي، بين الحضور والغياب، وهي بذلك تقوض الحدود الفاصلة بين هذه الثنائيات. يتجلى هذا التفكيك في عبارات مثل “يسير في المنام أحياناً، ولا يفيق” إذ تتداخل حالتا النوم واليقظة في كيان واحد. هذا التقويض للثنائيات يمتد ليشمل الحدود بين الواقع والخيال، بين الحقيقة والوهم، مما يؤسس لرؤية ما بعد حداثية عميقة. وتمتد هذه الحالة إلى ما هو أبعد من مجرد الحالة البدنية؛ تصبح استعارة للوجود الحديث نفسه. تتحرك الشخصية في الحياة بأداء الروتين اليومي بينما تظل (لا تزال تغرق في سبات عميق)، مما يمحو بشكل فعال الحدود بين حالات الاستيقاظ والنوم. يمتد طمس الفروق التقليدية هذا إلى طبيعة الوجود والغياب، إذ توجد الشخصية المحورية في الوقت نفسه ولا توجد – (قد يكون بيننا الآن) بينما قد يكون أيضًا «شبح». تظهر هذه الرؤية في تصوير الشخصية وهي تتحرك بين عوالم متداخلة، لا يمكن الفصل بينها بشكل قاطع. يصبح “السائر في نومه” تجسيداً لحالة الإنسان المعاصر الذي فقد القدرة على التمييز بين الحقيقي والوهمي، بين الواقعي والخيالي.
عالج البريكان قضية فقدان الهوية عبر استعارة “السير في المنام” التي تمتد عبر القصيدة بأكملها. هذه الحالة من اللاوعي المستمر تمثل انفصال الإنسان عن ذاته وعن وعيه الحقيقي. يقدم النص صورة عميقة لتشظي الذات وتفككها في العالم. فالشخصية المحورية لا تظهر ككيان موحد، بل تتجلى في حالات متعددة ومتناقضة: إنسان عادي في النهار يحمل «وجها كوجه الناس أجمعين» يمارس طقوسه اليومية بآلية، وذئب في الليل يتحرك في العتمة بشكل مخيف كالذئب الذي أيقظته الظلمة، وشبح يتحرك في المجتمع من دون وجود حقيقي. هذا التعدد في الهويات يعكس الرؤية للذات باعتبارها كياناً غير مستقر. وتتعمق أزمة الهوية عبر تصوير عجز الشخصية عن الاحتفاظ بذاكرة متماسكة أو هوية ثابتة. يظهر هذا في مقاطع مثل “ماضيه لا يعرف إلا أنه بعيد!” و”حاضره ليس له صوت ولا صدى”. هذا التفكك في الذاكرة والهوية يجسد الرؤية ما بعد الحداثية عن استحالة وجود هوية ثابتة أو متماسكة، يعكس هذا التجزؤ الزمني الانحلال الأوسع للهوية.
يقوم النص بعملية منهجية لتفكيك السرديات الكبرى المرتبطة بالاندماج الاجتماعي والتقدم البشري. فالروتين اليومي للشخصية، المتمثل في الذهاب إلى العمل والجلوس في المقاهي وزيارة المعارض، يظهر كسلسلة من الحركات الآلية الفارغة من المعنى- «يجلس في أبهى المقاهي» ويحضر «معارض الرسوم أو متاحف الآثار»، وحتى تفاعلاته مع الآخرين، التي تميزت بالضحك السطحي والنكات التي تم التدرب عليها، تسلط الضوء على ان الأعراف الاجتماعية جوفاء. هذا التفريغ للطقوس الاجتماعية من معناها يقوض السردية الكبرى بشأن التقدم الاجتماعي والتواصل الإنساني. يمتد هذا التقويض ليشمل سرديات أخرى مثل سردية النجاح الاجتماعي وسردية التطور الخطي للحياة البشرية. فالشخصية، رغم مشاركتها في كل مظاهر الحياة الاجتماعية، تبقى منفصلة ومغتربة، غير قادرة على تحقيق تواصل حقيقي أو معنى عميق لوجودها. هذا الفشل في تحقيق المعنى يقوض الافتراضات الأساسية للسرديات الكبرى التي تتعلق بـمعنى الحياة الإنسانية وغايتها.
إن تعامل البريكان مع اللغة في القصيدة يعكس رؤية ما بعد حداثية عميقة بخصوص طبيعة اللغة وعلاقتها بالمعنى. فاللغة في النص لا تؤدي وظيفة توصيلية بسيطة، بل تتحول إلى فضاء مفتوح للتأويلات المتعددة والدلالات المتناقضة. يظهر هذا في استخدام التعبيرات المجازية المركبة مثل “كظل باهت” و”نداء ميت أبح”، إذ تتجاوز اللغة وظيفتها التقليدية في نقل المعنى المباشر وتخلق هذه الإنشاءات اللغوية شبكة من المعاني المتغيرة، حيث تنهار العلاقات التقليدية ذات الدلالة. يتعمق هذا البعد اللغوي عبر استخدام الاستعارات المتناقضة والرموز متعددة الدلالات. فالظلام في القصيدة، على سبيل المثال، يتحول من كونه ظاهرة طبيعية إلى فضاء معرفي ووجودي يحمل دلالات متعددة ومتناقضة. هذا التعامل مع اللغة يؤكد الرؤية ما بعد الحداثية عن عدم وجود معانٍ ثابتة أو نهائية، وإنما هناك دائماً إمكانية لقراءات وتأويلات جديدة.
يتميز البناء السردي في القصيدة بتفككه وعدم خطيته. فالزمن في القصيدة لا يسير بشكل خطي، بل يتداخل فيه الماضي مع الحاضر، والليل مع النهار، في حركة دائرية تقوض فكرة التسلسل الزمني التقليدي. هذا التفكك الزمني يتجلى في عبارات مثل “ماضيه لا يعرف إلا أنه بعيد” وفي الانتقالات المفاجئة بين المشاهد والحالات. ويتعمق هذا التفكك السردي عبر موقف السارد نفسه. فالسارد في القصيدة يقدم نفسه كراوٍ غير موثوق به، يروي عن كائن غامض قد يكون أي شخص. هذا الغموض في موقع السارد وعدم موثوقيته يتوافق مع استحالة وجود سرد موضوعي أو حقيقة سردية مطلقة.
تطرح القصيدة أسئلة فلسفية أساسية عن طبيعة الوجود الإنساني في العالم الحديث. فالسائر في نومه يمثل نموذجاً للإنسان المعاصر الذي فقد قدرته على فهم ذاته وتحديد موقعه في العالم. يتجلى هذا البعد الفلسفي في تصوير حالة الاغتراب الوجودي التي تعيشها الشخصية، وعجزها عن تحقيق تواصل حقيقي مع ذاتها أو مع الآخرين، كما يعكس اغتراب الشخصية المحورية في القصيدة عن الذات والآخرين والواقع – مخاوف وجودية أوسع عن إمكانية الاتصال الحقيقي والمعنى في الحياة الحديثة. تتجاوز القصيدة المستوى الفردي لتصبح تعبيراً عن أزمة الإنسان المعاصر. يشير البريكان إلى أن هذا “السائر في نومه” قد يكون: “أي امرئ يسير في الطريق في وسط الزحام” وبهذا تتحول القصيدة من مجرد وصف لحالة فردية إلى تشخيص لحالة إنسانية عامة تعبر عن أزمة الإنسان المعاصر في المجتمع الحديث. يمتد البعد الفلسفي ليشمل تساؤلات عن معنى الوجود وإمكانية المعرفة في عالم فقد يقينياته. فالقصيدة لا تقدم إجابات واضحة لهذه التساؤلات، بل تتركها مفتوحة، مؤكدة الرؤية استحالة الوصول إلى حقائق مطلقة أو معانٍ نهائية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة