إسماعيل زاير يوثق الدور الريادي والحداثوي لفنانيّ المنفى

في إصداره الجديد (الحداثة التشكيلية العراقية)يتطرق المؤلف ( الإعلامي والفنان التشكيلي) الراحل إسماعيل زاير الى ظاهرة الفنانين المنفيين وتأريخ الهجرات التي كان الفنانون جزءاً من ضحايا المشهد الثقافي العراقي التي بدأت في عام 1963 ومن ثم في عام 1968 وتعمقت بعد عام 1987 ويميز بين نوعين من المنفى، الاول هو المنفى الشرقي حيث توجه الفنانون في بداية خروجهم الى لبنان، ففي بيروت وصل عددهم ما يقارب الـ 80 رساماً معظمهم من ذوي التوجهات اليسارية، اما المنفى الثاني فهو المنفى الأوروبي، حيث اشتغل الفنانون في بداية خروجهم كرسامين سياحيين لحين ترتيب اوضاعهم وتمويل أعمالهم الجادة والاندماج في السوق الاستهلاكي الغربي.

مصطفى الموسوي*

يقول هربرت ريد وهو من أكبر نقاد الفن الغربيين في القرن العشرين أن «الفن هو بناء الحقيقة» و»ان الفنان ببساطة هو ذلك المرء الذي له القدرة والرغبة لأن يحول إدراكه الرؤيوي الى شكل مادي. إن الجزء الأول من فعله (إدراكي) والجزء الثاني (تعبيري)».
لم تكن الحداثة في الفن التشكيلي العراقي الا محاولة لبناء الحقيقة عبر منجز تعبيري جمالي مدرك من قبل جمهور معين ومع ان مفهوم الحداثة مرتبط بشكل ما بالانقطاع عن الموروث، الا أن الحداثة التشكيلية العراقية لم تهدف إلى قطع كل الصلات بالماضي والبحث عن أشكال جديدة للتعبير، بل كانت في كثير من الأحيان محاولة لإعادة الحفر وإكتشاف المتراكم الفني في الذاكرة التأريخية لحضارات العراق القديمة، وأعادة تقديمها من خلال ابتكار اساليب وأشكال تعبيرية جديدة مع تطعيم المنجز الفني والجمالي في اللوحة والنحت والعمل الفني بإشارات ورموز منتقاة من هذه الذاكرة، بما يلبي الذائقة الفنية والثقافية للإنسان التي تتغير بمرور الزمن والأحداث.
(الحداثة التشكيلية العراقية .. طيران مبكر فوق سماء مضطربة)
كتاب جديد صدر حديثاً عن مؤسسة الصباح الجديد للنشر، للكاتب والصحفي والفنان التشكيلي المرحوم إسماعيل زاير، الذي سلط فيه الضوء على فرع مهم من فروع المعرفة والإبداع، الا هو الفن التشكيلي المعاصر في العراق وبواكيره في العصر الحديث منذ انطلاقته في النصف الأول من القرن العشرين وعلى مدى أكثر من نصف قرن، كما وثق الكاتب الدور الريادي والحداثوي لبعض الفنانين في هذا المجال، إضافة الى دراسة بعض التجارب المهمة لعدد من الفنانين العراقيين.

مرحلة التأسيس للحركة الفنية التشكيلية العراقية الحديثة
يشير المؤلف الى ان قروناً من الحكم العثماني أدت الى محو وملاشاة ما كانت التجارب الفنية والجمالية حتى القرن الخامس عشر الميلادي قد راكمته في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية من تجارب وتقاليد، ليست مدرسة بغداد للفنون في القرن الثالث عشر الا وجهاً واحداً من وجوهها، لكن مع انتهاء الحقبة العثمانية ودخول الإستعمار الغربي الى العراق والمنطقة بدأت مرحلة جديدة تمثلت بتلقي ونقل تعبيرات تشكيلية جديدة أنضجتها حركة الفنون في أوروبا والغرب، وجاء هذا النقل أول الأمر عبر المؤسسات العسكرية التي استوعبت بعض الضباط العرب والأتراك ومن ثم عبر ارسال المبعوثين من أبناء البلاد للدراسة في الخارج.
لقد كان الفن التشكيلي العراقي فرعاً مهماً من فروع الثقافة، وجزءاً لا يتجزأ من الحركة الفكرية والإبداعية في العراق الحديث، كما كان ولفترة طويلة راصداً حقيقياً لحركة الحياة والناس والعلاقات والتغيير، ومعبراً عن حركة التأريخ. ولقد انطلق هذا الفن بإندفاعة قوية مع بداية تحديث المجتمع العراقي الذي بدت معالمه الواضحة في مجالات عديدة نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات من القرن العشرين، وأصبح في تلك الفترة وما بعدها عاملاً أساسياً في إكتشاف وبلورة الهوية العراقية، ومحفزاً اساسياً للتغيير والحداثة في المجتمع العراقي، جنباً الى جنب مع مجالات الفن الأخرى وفروع الإبداع الفكري على مختلف الصعد، ومنها الشعر العراقي الذي تربع على كم تراكمي غير منقطع لما قبله مع وجود جمهور ذي ذائقة شعرية متوارثة، وقد مر بمراحل عديدة لحين خروجه من عباءة القديم وانطلاق مرحلة الحداثة في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات على يد مجموعة من الشعراء العراقيين الذين تفاعلوا مع التجارب الشعرية في الغرب اولاً وفي المحيط العربي ثانياً.
اما الفن التشكيلي في العراق، فكان عليه ان يبدأ من الصفر تقريباً، وأن يحرث في أرض بكر (بحسب بلند الحيدري) بسبب الإنقطاع في هذا المجال، وعدم وجود تراكم فني إبان مرحلة الحكم العثماني، ورغم ذلك عمل الفنانون العراقيون خصوصاً الرواد منهم بدأب في محاولة إكتشاف أنفسهم عن طريق التجريب وأستخدام اساليب جديدة في الفن، وكانت الحركة الفنية الحديثة تتقدم بسرعة عجيبة بل قامت بحركة انقلابية حقيقية في أساليب الرسم، وفقاً لجبرا ابراهيم جبرا كما يشير الكتاب الى ذلك.
ان مهمة الفنان التشكيلي هي ان يعكس ويلبي رغبات الجمهور من ناحية وان يعمل على ولادة نظرة جديدة للفن، وتكريس ذائقة جمالية متطورة للإرتفاع بمستوى ماهو سائد عند الجمهور وخلق جمهور جديد. ولقد كانت مهمة الفنان العراقي مزدوجة تتمثل في خلق فن وخلق جمهور، فمن ناحية كان عليه أن يخلق حركة فنية تؤسس لذائقة جمالية متقدمة، ومن ثم خلق جمهور متذوق لما تقدمه اي خلق سوق فنية وهو ما كان شبه معدوم في النصف الأول من القرن العشرين.

الحداثة في الفن التشكيلي العراقي، ظواهرها، والعوامل المؤثرة فيها
يؤكد زاير بأن افتتاح المعرض التأسيسي لجماعة (بغداد للفن الحديث) عام 1951 كان ايذاناً بانطلاق مسعى الحداثة العراقية ونقطة تحول فاصلة بين جيلين وزمنين تشكيليين في العراق. وكانت في الواقع بمثابة «المانيفستو» او البيان للإعلان عن ولادة الحداثة العراقية الفنية، والذي دشن تمرد الفنانين الرواد وتلامذتهم فيما بعد، على جملة الموروث المفهومي والتقني السائد في الوسط الفني والثقافي او في المجتمع بوجه عام، حيث اقترح البيان «مغزى حضارياً وانسانياً» للجماعة وتكريساً «للروح الجماعية» و»الالتزام الانساني» ، كما ارسى بشكل واضح السمة الثقافية والفكرية والإجتماعية المشاكسة للفن الحديث في العراق.
ويؤكد الكاتب على أن الجدل بين الفنانين التشكيليين ادى الى ان انقسامهم تركز في البداية على امرين الأول يتعلق بالوظيفة الفنية، فيما يتعلق الثاني بالمفاهيم التقنية، ومن ثم استمر الجدل الناجم عن الخلط بين الوظائف الفنية- التقنية للعمل الفني والوظائف الإجتماعية .
يقرر الكاتب بعض الظواهر المرتبطة بالحداثة في مجال الفن التشكيلي العراقي أولاهما بروز ظاهرة الجماعات الفنية منذ الاربعينيات، مثل جماعة الرواد و(جمعية أصدقاء الفن) التي أسسها أكرم شكري. وشهدت الخمسينات تبلور قطبين متمايزين الاول حداثوي تمثل بـ(جماعة بغداد للفن الحديث) وضمت جواد سليم وأكرم شكري ومحمود صبري وسعى الى التوفيق بين الاسلوب العالمي والهوية المحلية وقد كانت هذه الجماعة متأثرة بالفنون في ايطاليا وبريطانيا وحداثتهما المختلفة عن الحداثة الباريسية التي تمسك بها القطب الثاني وهو تقليدي ومحافظ فنياً ومتأثر بالنزعات الفرنسية ومثله فائق حسن وخالد القصاب وزيد صالح زكي واسماعيل الشيخلي وكتلة مجموعة الرواد التي تمسكت بنزعتها البدائية والعفوية في الممارسة الفنية. لقد أصبح التأريخ الفني والتشكيلي والأدبي العراقي تأريخاً لتفاعل وترابط الجماعات مع محيطها الثقافي العام.
أما الظاهرة الثانية فهي تقدم العامل السياسي على بقية العوامل الفنية والتي أذكتها الصراعات الإيديولولوجية وأدت في ما أدت الى لجم موجة التجربة التشكيلية ولي عنقها نحو الدعوة والتبشير وطغيان السياسي على الفني في بعض الفترات خصوصاً الفترات التي أعقبت ثورة تموز 1958.
والظاهرة الثالثة هي ظاهرة الفنان المنفي او فن المنفى، التي برزت في أواخر الستينات بفعل الإنقلابات العسكرية التي اجبرت العديد من الفنانيين الى اللجوء الى بعض دول الجوار العربي او الى أوروبا.
ويشير الكاتب الى ان هذ التأسيس للحداثة قد ترسخ وقويت جذوره بمرور الزمن بفعل الظروف الخارجية للفن، المتمثلة ببيئة التحولات الاجتماعية والسياسية في البلد وصعود قوى سياسية وشعبية جديدة الى السلطة، خصوصاً بعد الرابع عشر من تموز عام 1958 تلك القوى التي كانت تحدوها الرغبة في ابتكار ملامح وطنية للفن كوسيلة من وسائل تحقيق الذات الوطنية وتجسيد ملامح جديدة للفن يتميز بها عن فنون مرحلة الإحتلال البريطاني للعراق، فأطلقت للفنان حريته التي أعاقها النقص في دور العرض ومحدودية الإمكانيات البحثية الأمر الذي عمق الجذر الإجتماعي الشعبي للموضوع الفني. وادى ذلك الى نتيجتين ايجابيتين:
أولاهما: تحرير الفنان من عناء العلاقات الإقتصادية القريبة الى حد ما من علاقات العرض والطلب في سوق يتحكم بها ذوق هجين بتجليات تقليدية شائهة.
ثانيهما: أصبحت الدولة ومؤسساتها الرسمية هي الزبون الأول والأكبر في سوق الفن الوطنية ودخلت كطرف فاعل في حركة الفنون وأمنت للفنانين مداخيل اقتصادية جديدة وفتح لهم ابواباً للنشاط والعرض لم تكن مشرعة في وجوههم.
هاتان النتيجتان كانتا سبباً في إمتزاج وتداخل جملة من واسعة من الأشكال الإبداعية وتفاعلها على مستويات التجربة والتلقي والإنتاج مما سمحت به تحولات الحركة المفاهيمية والتقنية في اوساط الفنانين وهو ما أفضى الى تكريس ظاهرة «الهوية الجماعية» ثقافياً وفنياً عبر فكرة تأسيس الجماعات الفنية، التي عززت الخبرات ذات الطابع الجماعي على خلفية المناخ السياسي وايلاء أهمية كبيرة لتقليد الجماعة الفنية على حساب التجربة الفردية المستقلة.
كما ان التراجع النوعي الذي حدث في الساحة الفنية عن القيم التشكيلية لصالح عوامل أخرى من خارج العملية الفنية جرى لصالح نزعات ومفاهيم شعبية وشكلية، خصوصاً بعد وفاة جواد سليم عام 1961، وقد جرى ذلك في سياق المنافسات والتسابق على كسب رضى السلطة السياسية والقوى التي تدعمها ولكن مع الزمن ومع التغيرات السياسية اللاحقة تكرس وتعزز وتحول الى فلسفة للفن السلطوي الذي يعادي في الجوهر حرية الفن ويوظف العملية الفنية ضمن برنامج الحكم مهما اختلفت نوازعه واتجاهاته خصوصاً بعد انقلاب 1963.

تأثير القمع السياسي على الفن
ويؤكد المؤلف على أن المتابع والراصد للحركة الثقافية والفنية والتجربة والبحث الفنيين التي ترافقها عبرت عن قوة كلما ضعفت الحكومة المركزية والعكس عندما تتعزز مركزية السلطة، ومن الشواهد على ذلك ان الأعوام 1963- 1965 التي شهدت قوة السلطة، شهدنا ظاهرة المنفى السياسي للفنانين، وفي الاعوام 1965-1967 مع تراخي قبضة السلطة ابان حكم عبد الرحمن عارف ازدهرت الحركة الفنية والثقافية وحتى عام 1968 ومجئ البعث للسلطة ومع ضعف المؤسسات القمعية آنذاك كانت هناك فسحة من الحرية، وهو ما اتاح للفنانين من مراجعة وتقييم المخزون البصري التأريخي للعراق ومعالجته كمادة وموضوع للرسم من منظور جديد يفحص سمات الفن الآشوري والسومري والإسلامي ولاسيما مدرسة بغداد ورائدها الواسطي التي ازدهرت في القرن الثالث عشر الميلادي.
تحت وطأة القمع السياسي لجأ الفنان في بعض الأحيان الى تغيير أساليبه الفنية، وهو ما يفسر ازدهار النزعات التجريبية فترة بداية الستينات ولا سيما تعبيراتها التجريديدية وطغت على الاعمال الفنية اساليب التجريد الفني والبحث الشكلي البحت كمهرب للفنان من الرقابة السياسية اضافة الى انها شكلت ازدهاراً للوعي التشكيلي نتيجة لتوسع الاتصال بالغرب ومدارسه الفنية، وادخال فروع وتخصصات جديدة للفن في كل من المعهد وأكاديمية الفنون الجميلة، كفن الغرافيك والسيراميك والفخار، بإعتبارها فنوناً تمتلك جذوراً في الذاكرة التأريخية للعراق القديم.
وكان لهذا الإزدهار أن خلق حركة نقدية واسعة اضافة الى تأثيره على مجمل الحركة الثقافية في البلد واتساع قاعدة التذوق الفني لدى شرائح اجتماعية جديدة وتعزيز المنتوج الفني من خلال التلقي والفرجة لكن من دون ان يكون مقتنياً او زبونا يضمن للفنان مردوداً مادياً.
لكن السلطة السياسية في عهد البعث استولت على كل مفاصل القطاع الفني بما في ذلك سوق العرض الفني وصالاته والسيطرة على وسائل الاعلام والطباعة والصحافة واخضعت الفنانين لنظام صارم حدد حرية نشاطهم من خلال فرض مواضيع فنية ومناسبات معينة ولاحياء مناسبات معينة للعرض في معارض الدولة بما يخدم توجهات السلطة وحزبها آنذاك، وأدى ذلك الى تلاشي عنصر جوهري في نمو النقد الفني واعادة تشذيب المفاهيم الفنية، وهو عنصر التفاعل الإجتماعي مع الجمهور من جهة ومع اشكال الابداع الفني من جهة أخرى.
ويتطرق المؤلف الى ظاهرة الفنانين المنفيين وتأريخ الهجرات التي كان الفنانون جزءاً من ضحايا المشهد الثقافي العراقي التي بدأت في عام 1963 ومن ثم في عام 1968 وتعمقت بعد عام 1987 ويميز بين نوعين من المنفى، الاول هو المنفى الشرقي حيث توجه الفنانون في بداية خروجهم الى لبنان، ففي بيروت وصل عددهم ما يقارب الـ 80 رساماً في وقت واحد خلال السنوات القليلة بعد هذا العام في معظمهم من ذوي التوجهات اليسارية الا انهم لم ينجزوا شيئاً ذا قيمة بسبب إضطراب ظروفهم المعيشية وبسبب العوز والحاجة التي دفعتهم للقيام بأعمال فنية غير ذات قيمة ابداعية في وقتها.
اما المنفى الثاني فهو المنفى الأوروبي، حيث اشتغل الفنانون في بداية خروجهم كرسامين سياحيين لحين ترتيب اوضاعهم وتمويل أعمالهم الجادة والاندماج في السوق الاستهلاكي الغربي، وفي كثير من الأحيان كانت أعمالهم تلبي الذوق الإستهلاكي الاوروبي، بمعزل عن قيمهم وتقاليدهم الفنية ومن دون ان تكون اعمالهم جسراً رابطاً بين ذاكرتهم الوطنية ومتطلبات الذوق الإستهلاكي الغربي.
وعلى الرغم من غياب العديد من الأسماء من الساحة الفنية بسبب مسعاها لتأمين متطلبات المعيشة والحفاظ على وجودها المباشر فحسب، الا أن هنالك العديد من الأسماء الفنية التي نجحت وبرزت على المستوى العربي والاوروبي وحققت نجاحات وانجازات متقدمة على المستوى التقني والفني كما في اعمال ضياء العزاوي وصالح الجميعي وفائق حسين ومحمود صبري والنحات سليم عبد الله وجبر علوان وآزاد أحمد وعلي عساف وفؤاد علي وآخرين.
تناول الكتاب بالدراسة نماذج عديدة من اجيال الفنانين التشكيليين ومنها جواد سليم ونصب الحرية، وتجربة الفنان ضياء العزاوي والفنان رافع الناصري، وتجربة الفنان محمود صبري، والفنان جبر علوان، وكذلك تجربة الفنان فاضل نعمة، وتجربة الفنان الكردي آزاد أحمد ناناكلي، ومنقذ سعيد وفنه، والرسام بشير.

  • ناقد تشكيلي وإعلامي وأكاديمي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة