الجريدة والعقال.. البقرة الصفراء قادمة

حميد عمران الشريفي

صاح الصبي و هو يعتلي اعلى قمة للقمامة ، عصر يوم قائظ .. اتجهت الانظار صوب الجهة التي اشار اليها ..ترك كل واحد ما كان مشغولا به و اتجهوا الى المكان الذي يتوقعون ان تقلب ناقلة القمامة حملها عليه ، عدة صبيان و صبايا و امرأتان و ثلاثة رجال ، معظمهم كان ينبش في اكوام القمامة وبعضهم كان يستريح تحت خيمة للجلوس مصنوعة ببساطة من قماش مستطيل مستند على اربع من جرائد النخل ، ارتكنت الى جانبها ناقلة حمل صغيرة ( ستوته ) ملأت بأكياس و اشياء متناثرة ، و كان فيها (ترمس) حفظ فيه الشاي يشرب منه عند الحاجة .. و احدى الصبيات كانت تقف قرب الحمير الاربعة و كان احدهم مربوطا بعربته ..
تجمعوا لاستقبال البقرة الصفراء و ما تفيض عليهم من مغانم ، حيث اخذت طريقها كالعادة ما بين اكوام القمامة لتقف قرب تل واطئ و حوله وقف المتلهفون الى حملها ، فهم منذ الصباح الباكر يبحثون هنا و هناك و وجدوا بعض الاشياء البسيطة التي تعودوا على وجودها و املهم في كل نقلة تصل ان يجدوا شيئا مهما ..
نزل سائق السيارة و مساعده الشاب يحمل صندوقا فيه علب للماء و اعطاه لأحد الصبيان و صبي اخر اعطى السائق و مساعده قدحين من الشاي ..
لم تكن السيارة تشبه البقرة او تشبه اي حيوان اخر بل و لم تكن صفراء لكنها عرفت بهذا الاسم في هذه البيئة التي تعايش اهلها مع انقاضها و روائحها في حلم الحصول على اشياء يمكن بيعها للحصول على قوت يومي يتيح لهم الاستمرار في هذه الحياة على امل و حلم اكبر بالحصول على صيد ثمين و ترك المكان و بيئته الى عالم اخر ..لا يتذكرون متى كتب احدهم بقلم الوان ، وجده في القمامة ، على جدار السيارة ( البقرة الصفراء) واستمرت الكتابة عدة ايام قبل ان تمحى ، ولم تمحَ الفكرة و اسمها في ذهن هؤلاء المرحبين بمقدمها ..قلبت الناقلة حملها الذي جمعته من الازقة و الشوارع فانبعثت الرائحة العفنة التي تعودوا عليها .. فانقضوا على التلّ بعضهم ينبش بيده و آخرون بعصا كانت بيدهم وانسحبت ناقلة الانقاض بين الاكوام المتناثرة متلاشية بعيدا عن هذا الطمر .
وجد صبي رزمة من الصحف فأزاحها واستأنف النبش مع الايدي و العصي المتزاحمة فوجد في مكان آخر عقالا ، استغنى عنه صاحبه بعد ان ارتخت خيوطه السوداء و ظهرت خيوطه الخفية ، رماه ايضا بعيدا عن التل و عاد الى بحثه ، إلا انه توقف !
رجع الى رزمة الصحف فحملها و اتجه صوب المكان الذي رمى العقال اليه ، مسح العقال بثيابه و قطع الخيوط التي ربطت بها الصحف و سلّ احداها و ترك ما تبقى متناثرا ، فتح الصحيفة و غطى بها راسه ثم ثبت العقال عليها فصارت شبيهة بالكوفية وامسك جريدة نخل كانت على الارض و بدأ يتوكأ عليها ، فأثار انتباههم تصرفه ، فتوقفوا عن البحث ، و اقتربوا منه ضاحكين على حركاته .. بادر احدهم الى صحيفة اخرى و شدها على رأسه بحبل كان بيده ،فهجم الصبيان على الصحف المتناثرة و شدوها على رؤوسهم بما حصلوا عليه من حبال و اسلاك و اشرطة من ملابس ممزقة .. و قاموا بتقليد حركات الصبي ثم ابتدعوا رقصات و حركات اخرى في وجبة لعب جماعية سنحت لهم .. فاوحت لاحدهم مع اقتراب احد الحمير منهم باهزوجة بعد ان هيأهم بالتنبيه : هاه اخوتي هاه !
فردوا عليه : هاه .
فاقترب من الحمار و تبختر بعصا النبش التي يحملها مرتجزا :
-((أرد اشتري حصان و أركب على البعيره مطي
و أنهكـ نهيكـ الذي مزكـوط غفلة ابمطي
من حيث إلي روح يتفصّل عليه مطي
و يزود منه رُبُع سويلي منه جحش
و اللي تظنه اسد واكـف اكـبالك جحش
ارد الحكـ الناس خو ما اظل بمكاني جحش
اكبر فرد يوم حتما حتى اصيرن مطي *))
-ها خوتي هاااه
-هااااه

  • لو نعرف انت بيا طوله .. لو نعرف انت بيا طوله *
    فرقصوا حوله وهم يرددونها بانسجام مع الايقاع .. و قام صبي آخر بمهمة المهوال ليصدح باهزوجة اخرى .. ورقصوا ايضا على ايقاعها .
    فرش صبي ما تبقى من صحف و احضر (ترمس ) الشاي و قناني الماء التي جلبها السائق لهم و جلسوا جميعا و وزعوا بينهما اقداح الشاي و الماء و اتجه بعضهم الى تدخين ( السجائر) و انتهت الجلسة مع قرب غروب الشمس غاصة في عوالمها خارج طوق هذا الطمر .
  • الاقتباسات من قصيدة (سري للغاية ) للشاعر موفق محمد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة