محمد جبير
العنوان في وعي السارد يُعدّ بعد حياكة القاعدة في البناء الهندسي للرواية (الحدث/ الشخصيات/ العنوان)، وهذا الأمر مختلف عند المتلقّي في ولوج الرواية من الأعلى (الهرم)، ويعدّ العنوان عند المتلقّي كقارئ عرفًا، الموجّه دخولًا إلى الرواية، وهو عبارة عن علامة لسانية وسيميولوجية لها وظيفة تعيينية، ومدلولية تأشيرية أثناء تلقّي النصّ، والتلذّذ به تقبّلاً وتفاعلاً، بمعنى أنّه المفتاح في الولوج إلى النصّ الروائي وإيقاع نسقها الدرامي وتوترها السردي.
التفت الروائي عزيز الشعباني إلى أهمية العنوان في رواية (طاعن في السرّ)، وأنّه حاضر في استخلاص البنية الدلالية للنصّ، وتحديد ثيمات الخطاب السردي، فعمل على توتير العنوان وتحميله طاقة الانفجار السردي، والغرض من ذلك شحن العامل النفسي للمتلقّي وتحفيزه في ولوج النصّ.
الكلمتان (طاعن والسرّ) ملفتتان للتوقّف إزائهما، في ربطهما معًا إشارة دلاليّة إلى أصل الفكرة وتولّدها في شرنقتها.
طاعِن (اسم) مُتقّدم في السّنّ، طاعِن بالحُكم بمعنى مُعترض، وطاعِن فاعل من طعن، فكلمة طاعن حملت بناءً هندسياً ثلاثياً هو (التقدّم/الاعتراض/الطعن)، لما جاء بعدها وهي كلمة سرّ بكسر السين، اسم جمعها أسرار، وهو ما تكتمه وتُخفيه من خفايا، ومكانها القلب، فجاء العنوان موجّهًا قصديًا بمقدار ما تتوضّح به دلالات الرواية، حسب وجهة نظر الدكتور شعيب حليفي النصّي، في مقالته المنشورة في مجلة الكرمل العدد46 سنة 1992 (النص الموازي للرواية: استراتيجية العنوان)، إنّ العنوان مرآة مصغرة لكلّ ذلك النسيج.
العنوان هو من يشكّل قوام العمل الفنّي كونه نظامًا ونسقًا يعالج معالجة منهجية، أساسها العلامة المرتبطة ارتباطًا بنائيًا لا تراكميًا بدلالات أخرى، والمدخل النظري إلى الحدث النصّي، لتأتي الإجابة في اللا جواب عن سؤال: لماذا طاعن في السرّ؟ فالعلاقة لا تكون مباشرة بين طاعن والسرّ، بل هي علاقة حوارية بين التحدّد واللا تحدّد، وهنا عكس عزيز الدلالات المتعدّدة في حركة دائبة بين كلمتين متفاعلتين في زمن القراءة، منذ لحظته الأولى، أو ولادته عندما تمسك الرواية وتقرأ العنوان، فحوّله من اسم فارغ إلى علامة واسعة التشكّل، ذات قيمة دلالية وإيحائية وخبرية، والقيمة الدلالية هنا مبنية على ثلاثية الطاعن (التقدم/ الاعترض/ الطعن)، والخبرية في تحمّل خفايا السرّ ومكانه، وإيحائية الجملة في اعتماد الاستعارة، أو الترميز كمدخل فكّ رمزية السرّ، وتحديد هويته وتجميع شذراته وثيمته العامّة، وتوظيفه في إطار الهندسة الثلاثية (الإيحائية/ التأثيرية/ التأويلية) وفقًا لعلاقته بالشرح الروائي عن طريق الاختزال إلى الحدّ الأقصى، التي يحيل فيها العنوان على النصّ والنصّ على العنوان، وفي هذا الحال فإنّه تحوّل من كونه علامة لسانية أو مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنصّ، إلى كونه انطلاقًا في تتبّع عمل العنوان في النصّ.
جاء عنوان الرواية مطلقًا في كلّيته الفنّية والمجازية، ولا تتحقّق بؤرته إلا بجمع الكلية الدلالية أو الصورة المتكاملة التي يستحضرها المتلقّي أثناء التلذّذ بقراءة النصّ، والتفاعل مع جمالية النصّ الروائي.
تطلّب استخراج العنوان من النصّ الروائي وقتًا واسعًا من التأمّل والتدبّر لتوليده، ولا شكّ أنّ عزيز الشعباني أفرغ فيه جهدًا في اختياره؛ وتحويله ليصبح بنية دلالية، وإشهارية عامّة، ولأنّ صياغة عنوان أيّ عمل إبداعي جزء من الكتابة الفنّية، نظرًا لما له من أهمية على المستوى الإعلامي (الإشهار) أولاً، وعلى المستوى الفكري ثانيًا، وعلى المستوى الجمالي ثالثًا، ونظرًا إلى كلّ هذه الاعتبارات، فإنّه حمل أهمية خاصّة بالنسبة للكاتب والمتلقّي على السواء؛ لأنّه ملخّص النصّ، ويمكن اعتباره بنية عامّة قابلة للتحليل، والفهم، والتفسير، والتقويم أيضًا، من خلال عناصر النصّ الأساسية، التي تتمثّل في متتالياته، ووحداته الوظيفية ومراحل تكوين بنيته العامّة، التي تتمثّل كذلك في بنياته الأساسية، ومنظوره الفنّي المشتمل على عناصر الخطاب المكنّى عنه، وتشغيلها بما يضمن عدم إرباك العلائق الوظيفية بين المكنّى والمكنّى عنه، ويمكن اعتباره بؤرة النصّ وثيمته الكبرى واعتبار الرواية تكملة للعنوان في علاقة تفاعلية وجدلية.
إذا تأمّلنا النصّ الروائي نجد ما سجّله العنوان من بيان يلخّص مضامين ما جرى من أحداث ووقائع، والأدوار التي قامت بها الشخصيات والصعوبات التي واجهتها في حياتها، والمصير الذي آلت إليه في نهاية المطاف، فاستخدم الروائي عزيز الشعباني تقنية التحفيز الداخلي في سبر أعماق الشخصية الساردة والتعرّف عليها وعلى تشكّل أفكارها ورؤيتها في أبعادها الثلاثية:
أ- النفسية وتفاعلاتها السلوكية بأنواعها اللفظية؛ الحركية، والعقلية، والعاطفية أو الوجدانية.
ب- الفلسفية في دراسة الطبيعة الواقعية للحدث، ومعرفة السلوك السوي من السلوك الخاطئ في مجال الفكر الإنساني.
ت- التوجيهية في تفسير السلوك الشخصي والاستجابة العقلية أو العضلية (التحليلية)، وما يترتّب من سلوك فطري أو مكتسب.
أوجد عزيز الشعباني الشخصية الساردة من عقلها الباطني لنفسها، السارد والطبيب شخصان لروائي واحد متحدّث ومستمع، وباحث عن نظام فضفضة السرّ، ولأنّها لم تجد من تتحدّث إليه، وهذا بناء هندسي ثلاثي للشخصية الساردة (متحدث/ مستمع/ باحث)، وقد عرّف تيار الوعي الباطني، بأنّه خطاب م دون مستمِع، غير منطوق، تعبّر من خلاله الشخصية عن أفكارها، وأقربها إلى اللاوعي.
ميزت الناقدة الكندية دوريت كون ثلاثة أنواع من تيار الوعي الباطني:
- الحديث المفرد المنقول، هو ما نجده باستمرار في الرواية التي تستهلّ بجمل من نوع «عندئذ قال في نفسه».
- المفرد المسرود، فهو ذلك الذي يعكس الحياة الداخلية للشخصية باحترام لغتها الخاصّة، مع الحفاظ على ضمير الغائب وزمن السرد.
- المستقلّ، وهو ما ينقل بأكثر دقّة ممكنة الأفكار الحميمة للشخصية، حيث يمحو المؤلف كلّ أثر لحضوره، ويختفي ليترك مكانه لشخصية من صُنعه.