شكيب كاظم
يعد الشاعر رشدي العامل- المولود في مدينة عنة بأعالي الفرات العراقي سنة ١٩٣٤، والمتوفى ببغداد في التاسع عشر من أيلول ١٩٩٠- من شعراء ما بعد الرواد: نازك ، وبدر، وبلند الحيدري، وشاذل طاقة، الجيل الذي واجه الحياة السياسية العاصفة، إثر تموز ١٩٥٨، مثل: يوسف الصائغ، وسعدي يوسف، ومحمود البريكان، وخالد علي مصطفى، و،و، ولقد عرف بكتابة القصيدة المكثفة، أو ما تعرف بـ( قصيدة الومضة) وقد كتب في هذا اللون الشاعر سامي مهدي، فضلا عن أستاذي الدكتور كمال نشأة، الباحث والشاعر المصري، مع أن لرشدي قصائد طويلة مثل قصيدته (الحسين يكتب قصيدته الأخيرة) فهي قصيدة قناع، طعّمها بالكثير من الرموز والكنايات.
وإذ وصف بعض النقاد، شعره بـ( الرومانسية) ومنهم الناقد ماجد السامرائي، فإن رشدي العامل ما تعامل معها بحساسية سلبية، كونه شاعرا منغمراً بالهم السياسي الحزبي، والرومانسية، توحي بالفردانية والبعد عن الهم العام للمجتمع، بل كان يبهجه هذا الوصف، بل الأدق لا يزعجه هذا الوصف، حتى أنه يعابث صديقه الناقد العراقي المغترب؛ الدكتور حاتم محمد الصكر، يوم يهديه نسخة من ديوانه الأثير إلى نفسه (حديقة علي) وهو آخر ما صدر له في حياته؛ يهديه نسخة من ديوانه مؤرخة في ١١/تموز/١٩٨٦، مدونا إهداء مشاكسا- كما يصفه حاتم الصكر-( أخي حاتم سأظل شاعرا رومانسيا) ! لقد كان يشير إلى دراسة كتبها الصكر عنه، أوضح فيها ذيوع نبرة غنائية وجو رومانسي يؤطر قصائد رشدي! تنظر دراسة الصكر في مجلة (الأقلام)١٩٩٢
رشدي العامل، ما وجد أن وصف شعره بالرومانسية، التي تعني- في بعض صورها- الذاتية، ما وجد في ذلك منقصة أو مثلبة فأكد رومانسية شعره، كما أكد فتى النقد العراقي عبد الجبار عباس (١٩٩٢) (انطباعيته النقدية) يوم ركب بعض نقادنا موجة الحداثة والمدارس النقدية الحديثة، وأضحت الانطباعية في عرفهم عيبا!
يدعي بعض المشتغلين بالهم الإبداعي، مواظبتهم على الكتابة في أوقات محددة من يومهم، وكأنهم يؤدون واجبا وظيفياً، وليس إبداعيا، والكتابة لاتواتيك دائما، وهي تفرض نفسها عليك، وهو ما وقفت عنده في (صحيفة بشر بن المعتمر)؛ وأبو سهل بشر بن المعتمر (٢٢٠ه) من بلغاء المعتزلة وكبار الفصحاء، يؤكد أن الأديب ليس بقادر على الإبداع في كل لحظة، ولا يواتيه القول في كل زمن، وهذا شاعرنا الفرزدق يقول، وربما مرت علي ساعة ونزع ضرس أهون علي من أن أقول بيتا من الشعر، ولقد رأيت شاعرنا رشدي العامل صادقا مع نفسه، ومع محاوره ومع قرائه، لدى إجابته عن سؤال وجهه له الشاعر العراقي المغترب عدنان الصائغ؛ عن لحظة الخلق، لحظة كتابة القصيدة، كيف تكون عند الشاعر العامل، هذه اللحظة أين تكون على خارطة الزمان والمكان؟
الشاعر رشدي يؤكد لمحدثه، ليس لكتابة القصيدة زمن، وليست هناك لحظة، إن الشاعر الحقيقي هو الذي يعيش كل لحظاته شعريا: زماناً ومكاناً.. وتولد القصيدة عندي بأشكال مختلفة، لا مكان ولا زمان لميلاد أية قصيدة.
وأنا أقرأ جواب شاعرنا، تذكرت جواب الروائي الأمريكي وليم فوكنر(١٨٩٧-١٩٦٢) صاحب الرواية الشهيرة (الصخب والعنف) عن أوقات الكتابة، مؤكداً لمحاوره البروفسور اليوغسلافي ماركوفيتش، رئيس قسم اللغة الإنكليزية في جامعة بلكراد، وقتذاك، إنه يكتب حين يشعر بالرغبة في الكتابة، وليس هناك قانون لذلك. تنظر ص١٤٨ من كتاب ( وليم فوكنر في صخبه وعنفه) ترجمة وإعداد الناقد العراقي الدكتور نجم عبد الله كاظم(٢٠٢٠) الذي أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد طبعته الأولى سنة ٢٠٠٥.
لاريب إن المرض الوبيل قد عصف بجسد شاعرنا رشدي العامل، الرقيق والنحيل، المرض الناتج عن المعاقرة الدائمة للخمر، فضلا عن عذاب السجون والمعتقلات التي دفع ضريبتها الباهظة، وهو ما عرف بـ( ارتخاء في المفاصل العظمية) فضلا عن تعب في النظر، حتى أمسى في سنواته الأخيرة ملازما غرفته المطلة على حديقة الدار الصغيرة، أطلق عليها اسم نجله البكر المهاجر (علي)، وأطلق هذه التسمية ( حديقة علي) على مجموعته الشعرية الأخيرة الصادرة في حياته- كما أشرت آنفا- هذا الضعف التدريجي في الصحة، الذي كاد يتحول إلى عجز تام بسبب استمرار تداويه بالتي كانت هي الداء- على لغة أبي نواس- جعلت قصائده الأخيرة تكتظ بصور الموت والرحيل.
اشتاق أن أكتب، ما لا يكتب الليلة/ استل من عمق جراحي الشوك والسكين/ وأزرع الغلة/ أريد أن أضحك، أذرو في مهب الريح/ دمي وأستلقي وحيداً/ أدفن الأحزان تحت الطين/ لكنني اصمت مخذولا/ وقلبي متعب جريح.
وهو ما عاناه بدر شاكر السياب(١٩٦٤) في أيام مرضه الأخيرة، إذ جفاه وطنه وطردته مديرية الموانئ العامة- وكان أحد موظفيها- من أحد دورها، لكثرة غيابه عن العمل! وفتح المستشفى الأميري بدولة الكويت ردهاته أمامه لتطبيبه، حتى إن أستاذي الدكتور جلال الخياط(٢٠٠٤) في كتابه المهم (الشعر العراقي. مرحلة وتطور) الذي أصدرته دار صادر ببيروت عام١٣٩٠ه-١٩٧٠يذكر أن الأستاذ خليل الشيخ علي عثر على قصائد كلاسيكية نظمها بدر أخريات حياته منها قصيدة خاطب بها الإمام عليا، جاء في آخرها: كن شافعي يوم تسعى باسمك الأمم، فضلا عن أبيات جاء فيها:
إلهي لماذا تخليت عني/ وخيبت ظني/ وأدميت قلبي/ وأدمعت عيني/ إذا لم أعاتبك أنت الرحيم/ فمن أعاتب فيمن أراه؟ تنظر.ص.١٧٥
أو قوله: سأعجز، بعد حين/ عن كتابة بيت شعر، في خيالي جال/(..)/ لأكتب، قبل موتي، أو جنوني،/ أو ضمور يدي، من الإعياء،/ خوالج نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي،/ وأوهامي،/ وأسفح نفسي الثكلى على الورق.
وإذ عيب على الشعراء؛ غالب الشعراء، تكسبهم وأماديحهم منذ أزمان متطاولة وحتى الآن، وفي الباصرة والذاكرة، شيخ شعراء التكسب والمديح، أبي الطيب المتنبي، فإن شاعرنا، شاعر احترام الذات، ولا أقول شاعر الالتزام، لأني لا أرغب في هذه الصفة، النعت، كان متطابقا مع ذاته ونفسه ومبادئه، فهو إن لم يستطع أن يقول كل الذي يريد قوله، لأسباب معروفة شتى، فإنه ما قال الذي لا يأتلف مع آرائه وأفكاره وقيمه، كان صادق اللسان والجنان.
حدثني صديقي المثقف ( منذر عبد عباس المفرجي) وكان يزوره في دارته المتواضعة خلف مستشفى اليرموك ببغداد، إنه زاره مرة، ليجد أحد الشعراء، وكان رئيسا لتحرير إحدى الصحف، وكادرا متقدما في الحزب الحاكم اوانذاك، يغادر غرفة رشدي منزعجا غضبان أسفاً، وفهم صديقي الراحل منذر(٢٠٢٠) إن الشاعر-وهو من أصدقاء رشدي الحميمين- كان يحاول أن يدرأ عنه أذى العسس والوشاة والمخبرين، بأن يكتب شيئا يحبط هؤلاء ويخرسهم، ويكون دريئة له، لكنه رشدي الذي لم يقبل بإباء وشمم، مع احترامه الشديد لصديقه الطيب، أن يكتب شيئا خارج منظومة قيمه وقناعاته وأفكاره.
كان لهذه الرحلة الحياتية القصيرة أن تنتهي، هذه الرحلة التي تجاوزت النصف قرن قليلا، والذي عمل على تقصيرها، الانغمار في العمل السياسي والارتماس فيه، وما يجلب ذلك على صاحبه من أذى نفسي وجسدي، ولا سيما إذا كان صادقا مع نفسه مثل رشدي، أما الحرباويون فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ذلك أن دولنا لا تقلد من يخالفها سياسيا- حتى وإن كان أعظم المبدعين والمفكرين- لا تقلده وساما بل تقلده ارفع معتقلاتها- كما يقول صديقي أبو الجود؛ الشاعر الحطاب جواد-! فضلا عن ارتماس بالخمر، وخلاف مع الزوجة، ورهافة حس لا بل توقده.
كل هذه البلايا عجلت برحيل الشاعر الملتزم، الشاعر الرومانسي، شاعر الومضة، شاعر القصيدة المكثفة؛ رشدي العامل (العاني) وأبوه الشيخ يصرخ وهو يرى ابنه يودع ثرى مقبرة الكرخ بأبو غريب (مع السلامة وليدي.. يا موهوب؟!) والمواهب في بلادي تكون عبئا مضافا على أصحابها، ويوم يزور القاص والروائي مهدي عيسى الصقر (٢٠٠٦) صديقه القاص المبدع؛ الذي اعتزل الدنيا، ومات قبل أن يموت، عبد الملك نوري (١٩٩٨) يوم يزوره في منزله، ويبلغه بوفاة الشاعر رشدي، صمت قليلا، ثم تمتم كأنه يحدث نفسه: حسنا فعل.
يقول الصقر: أحزنتني نبرة اليأس في صوته المنكسر. أكان يتمنى مثل هذه النهاية لنفسه؟ تنظر.ص.٨٦ من كتاب (وجع الكتابة. مذكرات ويوميات) للصقر. طبعته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة ٢٠٠١، طبعة أولى.