الكتابةُ بنكهةٍ فلسفيةٍ وإنسانيةٍ ..
إبراهيم رسول
أن تكونَ أديباً مُميّزاً, فهذا لا يكون إلا بأن تكسر النمطية السائدة وتأتي بالابتكار الجديد ثم تواكب عملية التقدم كأنّك تسعى وراء غايةٍ, وقد قيل في التميّز : أن تكون معروفاً من بين الجميع, بعكسِ الشهرة والتي تعني : أن تكون معروفاً لدى الجميع, فربما تحصل على الشهرةِ بأمورٍ شاذةٍ تافهةٍ سخيفةٍ ولكنك لن تحصل على التميّزِ إلا بشيءٍ له فائدة مهمة ومبدعة, وهذه خاصيةٌ سنتخذها مثالاً لما نريد أن ندونَ له في هذا المقال. إنَّ الكتابةَ الروائية تحتاج إلى كاتبٍ وقارئٍ ناقدٍ يفكر في النص الذي أمامه أو بين يديه, وهذه مهمة قد تقع على عاتق الخالق والمتلقي, والخالق هو المُوجد من عدم أو من لا شيء أو من تأليف عناصر متفرقة فيجمعها في قالبٍ جديد, وكما يقول فردريك شليكل: ( إن كل نظرية للرواية يجب أن تكون هي نفسها رواية. ( كتاب الخطاب الروائي لميخائيل باختين, تر محمد عصفور 1987ص8). وما ميّزَ كتابات د. نتالي أنها تمتلكُ مرجعيات معرفية غنيّة أمدتها بهذا الطرح الذي نالت به منزلةً مميزةً عن المتلقي. فهي تكتبُ بلغةٍ فلسفية عميقة, وهذا راجعٌ إلى كم القراءات الفكرية التي كونت منها كاتبة ذات نزوع فلسفي أو ميل نحو الفكر النقدي ( التساؤل) وقد طغت وهيمنت هذه ( ال لماذا) في ثلاثةِ روايات لها, وكأنها لا تقبل إلا أن تكون حرةً في فكرها وعقيدتها وحياتها. لكن وفي ( لكن) وقفات تطول. إن هذه التساؤلات قد تجعلها تمضي في نقدها حتى تصلَ إلى ما يسمى ( المقدس) في عقيدة كم من الناس, هي تحاول أن تفعلَ دور العقل وتستفزه عبر كلماتٍ لهن دلالات عابرة لما وراء النص, مثلاً تقول في روايتها هجرة الآلهة والمدائن المجنونة ص 5: ( إذا كنتَ كلّي القدرة يا الله, وكلّي الخير, كيف تخطف امرأة, قلبها حديقة فضائل, ونهارها تسبيح, وليلها سجود؟! … أتراك تحب أن تقهر من يحبّونك ويصلون إليك؟ .
ففي الكلمة الأولى تضع علامتين لهما دلالة مختلفة فهي تارةً مستفهمة وتارة متعجبة, وفي النص الثاني تكتفي بالاستفهام وتغلق السطر. إنها ذكيةٌ في استخدام هذه العلامات التي لا تخفى على القارئ الذي يتأمل النص ويعرف دلالة العلامات التي لم تُكتب عبثاً ولم توضع في النصِ سُدىً, قد يكون النص حمالُ أوجه كثيرة وبالفعل هو كذلك, إذ أنها تستعير مفردة لتحي بها النص حيوات كثيرة متعددة, وكأنها تخشى على النص الموت أو الشيخوخة, فدلالة الاستفهام لم تأتِ هنا ( بحثاً عن جوابٍ) بل عن تساؤلٍ ودلالة التعجب واضحة أن النص منذهلٌ وهو يوجه خطابه إلى ذاتٍ عليا, قد يقرأها من لا بصيرةَ له في تفكيك شفرات النص والغوص مع بطونه فيتهم صاحبة النص بأنها أساءت إلى الله متعمدة الاساءة وهنا يموت النص ميتتين ظلماً وبهتانا, ولكن من يتأمل النص يكتشف أنه يرمي لغايةٍ بعيدة وهي التساؤل الذي ينفتح على احتمالاتٍ عديدة تبدأ بالعتب على الله وقد لا تنتهي ربما بمحاولةِ خطابه خطاباً مباشراً ( كيف يحصل هذا وأنت الرب الذي خلق الخلائق أجمعها ؟). والنموذج الثاني ورد في روايتها الطريق الرابع ص 25: الحركة تجعل الفكر أكثر نشاطاً. السكون للعشاق الشاردين. فلنمشِ… وفي ص 156: أجمل الطرق تلك التي تحررنا من أوهامنا! لكنّنا ما نلبث أن نتعلّق بأوهام أخرى! ليس سهلاً أن تكون بشراً! أن تكون متوازناً! نحن روح العالم, ووعي ذلك هو الطريق الأجمل! محبتي لكم! أنتظر جديدكم! . في نصٍ عدد كلماته دون الأربعين كلمة بمقدار ثلاثة أسطر تضع سبعة علامات تعجب كمل علامة نهاية لجملة. الطريقُ الذي تريد أن يسلكه البشر هو الطريق الذي يجعلهم بشراً أسوياء, ولا مجال للأوهام أن تسيطر على أدمغتهم وتقف حجر عثرة في طريق جديد حياتهم الماضية نحو الأمام بسرعةٍ عجيبة, فقد مارست الفلسفة سردياً وطوّعتها لتكون مادةً لسردياتها, ونقرّ أفلاطون في تفريقه للسرد بين ثلاثة أنواع بقوله: والسرد قد يكون مجرد سرد, أو تصوير وتمثيل, وكليهما معاً ( كتاب الجمهورية, أفلاطون تر: فؤاد زكريا سنة الطبع 1985ص260.) فالروائية هي تمثل السرد الذي يحوي كل الانواع الثلاثة, هي ساردة لا لمجرد السرد بل ساردة إلى ما بعد بنية النص, إذ تتميز نصوصها بانفتاحها إلى عوالم تأويلية كثيرة. تناقشُ د. نتالي مواضيع كثيرة وكل هذه المواضيع تحاول أن تثير العقل وتفعل قضيةً مهمةً ندرَ أن يهتم بها الكُتاب, ألا وهي قضية أن يجعل المتلقي هو من يبحث بعد أن يتعرض إلى وخزات قوية أو ضعيفة تبعاً لذكاء الكاتب وحذقه الطريقة التي يرسل بها رسائله, فأسلوب د. نتالي هو من أرقى أنواع الأساليب فهي تثير العقل وتحاول أن تنشطه وتستفزه عبر تقنياتها التي تبثها, فهي نصوص ناقدة نافرة لحالة الانكسار والخيبة التي يعاني منها الفرد العربي, قضية الإنسان العربي شكلت محوراً مركزياً في خطابها الروائي, واعطت المركزية في بناء العقل الفكري النقدي لحالة التشظي والضياع والتدهور الكبير, هي تفكر بالمستقبل وتستشرف أخباره عبر قراءاتها لهذه المقدمات الممنهجة والمقصودة لنتائج مؤلمة ستأتي لاحقاً, فهي تعيد رسم خارطة الاحداث وتقول لا بدَّ من تدارك الأمر قبل أن تضيع الفرص ونصاب بالخيبة والانكسار الأكبر الذي لن نقوم بعده أبداً. ترتكز الباحثة الروائية د. نتالي على كمٍ فلسفيٍّ واسع يمدها بالكثير من الرؤى والتوجهات التي تتبناها, هي فيلسوفةٌ أقرب منها روائية, وهي باحثةٌ مفكرةٌ أقرب منها أديبة, وهذه ميزة ملموسة ولا تحتاج إلى كبير عناء, فقارئ روايتها يحكم عليها بهذا الحكم عند لحظة قراءة العنوان, فلو تأملنا عنوان ( حين تعشق العقول) لوجدناه يحمل سيميائية ومدلول فلسفي ولا يبقى إلا أن نغوص في الرواية حتى نتعرف على العمق الفلسفي الذي تناقشه الرواية, ولو نظرنا بعين ناقدة إلى عنوان ( الطريق الرابع) لوجدناه يشير بكلِّ وضوحٍ إلى نزوعٍ صوفيِّ وحالما نبدأ القراءة نكتشف أنها تضيف لهذا النزوع فلسفةً لتكون هناك ممازجة كبيرة ومتشابكة بين التصوف والفلسفة, التصوف كشيء روحي والفلسفة كمادة عقلية, هنا تتحول الكاتبة إلى فنانة أو صائغة بامتياز, فهي لا تكتب لمجرد أن تكتب بل إنها تصوغ البناء الروائي أو الفضاء السردي صياغة وتبني دعائم متينة لتؤطرها بأطر رصينة. القراءةُ التفكيكيةُ ستكون متوفرة وتحتاج إلى متلقٍ يجيد التفكيك والتحليل في بنيةِ النص ويأخذه بصوره التي يحملها بأوجهٍ شتى, يحتارُ المتلقي في معرفةِ أيّ مذهبٍ فكريٍّ تذهب إليه الكاتبة, وهذه الحيرة راجعة لأن الكاتبة لديها مرجعيات فكرية واسعة هي السبب في حيرة المتلقي, فبعض الأحيان تراها تميل إلى الفلسفة الحديثة وتأتيك بالأقوال عن فلسفة الحداثة وتارة أخرى ترجع بك إلى الماضي السحيق, إلى ماضي الفلسفة الأول لتؤرخن فكراً يتناص مع الفلسفتين ويمتزج بهما, وهذه الأرخنة تتضح أكثر في الحوار بين الشخصيات, مثلاً, تراها لحبها للفلسفة تجعل شخصياتها فلسفية بل بعضها تعمل أستاذة جامعية متخصصة في قسم الفلسفة ( رواية الطريق الرابع, شخصية ناردين), الفلسفةُ غذاء ملهم لأفكار الباحثة, فاسلوب الكتابة اسلوب فلسفيٌّ صرف, وهي ميزة أسلوبية واضحة على كل كتاباتها سواء الأدبية التي تحتاج إلى خيال أو الدراسات النقدية التي تعتمد على العقل, هي ثابتة على خطٍ أسلوبيٍّ واضح ومعلوم, ألا وهو الاسلوب الفلسفي, كأنها تلجأ إليه لعله يجيب على ما يعتمل في مخيلتها من تصورات ورؤى تتصارع في دماغها, فتخرجها على هيئةِ جملٍ ذات صبغة فلسفية, وهذا هو ما ميّز الباحثة عن كثيرٍ من الباحثين والأدباء.