في ديوان (مكابدات الحافي )

تجليات الرمز الصوفي

طالب عمران المعموري

عالم متخم بالمواجع والأحزان، وأماني تتبدد بين اليقين والأحجية، وفلذات قلوب انطفأت بين حوافر الأيام ومعاول القدر المنحوس .. يطل علينا الشاعر بعنونة لرمز قذف مدرعته وهام في الشوارع وهو يصرخ.. أنا الحافي…
بشر الحافي.. 1 : «أبو نصر، بشر بن الحارث، كان قد طلب الحديث، وسمع سماعاً كثيراً، ثـم مال إلى التصوف، ومشى يوماً في السوق، فأفزعه النَّاس فخلع نعليـه، ووضـعهما تحت إبطيه، وانطلق يجري في الرمضاء فلم يدركه أحد، وكان ذلـك سـنة سـبع وعشرين ومائتين وكان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا، ويروى انه تاب على يد موسى بن جعفر عليه السلام قال العلامة الحليُّ (ت726 ه) : (وعلى يده عليه السلام تاب بشر الحافي ، لأنه عليه السلام اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب تخرج من تلك الدار فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل، فرمت بها في الدرب: فقال لها : يا جارية !صاحب هذه الدار حرٌ ام عبد ؟ فقالت : بل حر فقال : صدقت ، لو كان عبدا خاف من مولاه!
فلما دخلت قال مولاها وهو على مائدةَ السُكر: ما أبطأك علينا ؟ قالت : حدثني رجل بكذا وكذا ، فخرج حافياً حتى لقي مولانا الكاظم عليه السلام فتاب على يده.) منهاج الكرامة ص59. وذكرها القاضي نور الله التستري في مجالس المؤمنين ج2 ص410 عن العلامة الحلي.
مجموعة شعرية بعنوان (مكابدات الحافي) للشاعر عبد الأمير خليل مراد ،ط1 صادره عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ، بغداد ،2021 .
زينت بلوحة غلاف للفنان محمد علي جمعة تعبر برمزية لنسوة أسطورية يترقبن ما يلوح في الأفق من أعلى ربوة يطل على نهر .. بإضمامة أربعة عشر عنونة ..
اعتمد الشاعر عنوان الاستنباط المعجمي الصريح2 الذي قد ورد أحد عنونة نصوصه في مجموعته الشعرية كما هو صريحاً ويقدم نفسه على انه مفتاح تأويلي يسعى الى ربط القارئ بنسيج النص ، من مجموعته الشعرية وهي احدى قصائد المجموعة ، ص14
استهل مجموعته الشعرية متهجدا في حضرة ذبيح الفرات موظفا الرمز الديني المقدس حيث يعد الموروث الديني من أغزر المصادر التراثية التي استمد الشاعر شخصياته التراثية منه؛ وذلك لتنوعها فيه وتعدد دلالاتها، وعمق تجاربها، وقداسة اعتقادها؛ مما أعطاها شعبية أكثر من غيرها من المصادر..
استقى ما فيها من تناص شخصيات ورموز، ووظفها في أشعاره، متأثَّر بالمصادر الدينية الإسلامية، وعلى رأسها القرآن الكريم. يعبر من خلالها عن جوانب تجاربه المتعددة و قد وظَّف هذه الرموز بمـا يخـدم رؤيته وتجربته الشعرية.
يتجلى ذلك في نصه:
(تهجدات في حضرة الذبيح)3
(1)
لمْ أسأل عن هذا القلبِ المجروح
عن سبطٍ يمشي مذبوحاً
في يدهِ كونٌ أبيض وحمامةُ
بوحٍ وسَلام
تتبرّجُ في هذا العالمِ
وهي تضوّي رايات للعشقِ
وأخرى تتويجاً لبني الأنسان
وفي نصه:
كيف تراني وأراك؟
كيف أٌقطّرُ روحي في نجواك؟
كيف سأمحو بسؤالي في محرابك مفتوناً؟
وأرى فلكي دواَّراً
يتهجّى ملكوت السَّاعةِ في ضَجَرِ
ويقول:
ها أنذا في بابك أنقُّشُ اسمي
وأقول لناياتي
في هذا المِنْحَرِ أختزلُ الُّدنيا
وأرى سُبحاتي تتوضّأُ
بالنور الأعظم وهو يغازل ظلي
ها أنذا سبط أبي القاسم فاحملني
في سكك الجنة كي ألقاك
وعندما يجد الشاعر نفسه مضطراً للبحث عما يتقنع به بدافع من تجربته الشعورية يندفع إلى التراث الإنساني يتلمس في ثناياه ما يحقِّق بغيته ويتيح له الانفتاح على ذات أخرى يستطيع من خلالها أن «يثري تجربته الشعورية ويمنحها شمولاً وكلية وأصالة..
أدت به إلى الشخصية التراثية (بشر الحافي) ليحملها رؤيته الذاتية ومواقفه المتمثِّلة بالرفض وعدم القبول والنظرة السلبية للمجتمع وللكون والموقف الرافض للواقع والاقتناع بوجود العالم المثالي وهو عالم الشاعر الذي يحلم به ويتمنَّى تحقيقه ويدفع القارئ معه للتطلُّع إلى ذلك العالم المثالي والتفكُّر به طويلاً.
لعلَّ قصيدة «مكابدات الحافي»، تبرز توجه الشاعر الصوفي وتؤكِّد النزعة الوجودية من خلال حديثه عن الواقع الفاقد للقيم، فاستلهم الشاعر هذه الشخصية ليتقنَّع بها ويتحدث من خلالها، يظهر ذلك جليا في نصه:
أنا بشر الحافي
في السوق أقوم وأقعد
ودثاري أوزارٌ من صدف البشرى
وشقياًّ أغرف لا آمالاً وخطايا
لا مالٌ في كفي ينصرني
لا غرَرٌ في رأسي ووصايا
تلقفني من بئرِ ظُنُني
وتدحرجني كمسيحٍ في حوماتِ
قطافِ
يقول بشر وهو (الرمز الصوفي) كما في نصه:
أنا بشر الحافي
ياه.. ياه ..كم
عايشتُ ملوكاً وَرعَايا
وقنعتُ بجلبابٍ يَستُرُني
وبزادٍ يُقْري أضيافي
أنا بشرٌ وَرمادي ..أي بِشارَة
منثورٌ في بوابةِ عالمِنا الكابي
أبكي … وأُصلّي
وأُصلّي في كَبدِ
ونشيجي آهِ… نشيجي
إنجيلٌ وَمصاحِفُ في معمعةِ
الأَحلافِ
وتشير افتتاحية القصيدة إلى روح الصوفية، يلجأ إلى التعبير المقنَّع عند هذا الواقع؛ لنقل تفاعل ذاته معه ورفضها له، مطلقاً العنان لقدراته ومواهبه للتحايل على الواقع وتجاوزه،
وهذا الموقف الذي اتَّخذه بشر من الواقع العفن سببه الفساد المنتشر في واقعه، وفساد العلاقة بـين الإنسان والإنسان. حيث يقول :
أنا بشرُ الحافي
لم أزدد من قرنين سوى قَرَف
قرفٍ أبلى من قرف
وتراثي عرشٌ تطحنه سُرفاتُ الحيتان
إن توظيف الرمز ولغة الغموض التي تعتبر مغامرة شعرية تهدف الى فتح دروب الحرية والولوج الى المجهول ، وهذه المغامرة ليست فضاءً للترفيه بل هي ممارسة تجريبية لظاهرة شعرية لها تحرك مستمر ولا نهائي من الخلق والإبداع؛ لتصبح القصيدة رؤيا، فتشكّل بناء معرفياً خلال المستويات اللغوية التي تشكِّله وتتشكَّل به، أو من خلال العلاقات اللغوية التي تنتجه أدواته الفنية التي استخدمها في شعره للتعبير عن مواقفه الحياتية والفكرية
كما في نصه: ضمن قصيدته (من أحوال الحافي وأَمَاليه)
كما في نصه:
كَفْكِفوا عن نخلتي هذا الغُبار
وأَميطُوا عن دمي المطلول
وجهي المستعار
وأقيمُوا في ارتباكِ الأُنس
لحْدي
فَغَدي قبرٌ وصَوْلاتي
اندِحار
ورمادي سرمدٌ في كل بئر
كَلُجينٍ خطًه يوسف
في ثغرِ النهار
اتَّخذ الشاعر من الصوفي (بشر الحافي) قناعاً يبثّ من خلال مشاعره تجاه الواقع الأليم الذي يعيش فيه، ويعبر عن رفضه الشديد لما حوله من سلوكيات اجتماعية، ومواقف سياسية على الواقع، وتمتد دلالة هذا القناع ليعبر عن إخفاق الأمة في تحقيق العدل ورفع الظلم عن النَّاس.
كما في نصه:
أنا بشرُ الحافي
صوفيٌّ… ليبراليٌّ وشيوعيٌّ
أرقُلُ في موماتي وأروح
وغبارُ العِثْيَر يلطم وجهي كُلَّ ضُحى
وطفوفي أضرحةٌ وفتوح
وكأني ذئبٌ في حانةِ قبحٍ
ونبيٌّ مُضَنّى وسراجٌ يا آسفي
يبكي وينوح
الشعرية الجديدة عنده يتجاوز السطح للغوص في الأشياء للكشف عن عالم مليء بالحيوية وطاقته هي التجدد ، يتميز بشعر يحمل وعيا في الكتابة ووعيا في التجديد يعبر عن إمكانات الشاعر ومرجعياته الثقافية التي صقلت شخصيته الشعرية حتى صارت ملكة هيئة راسخة في النفس نرى ذلك جليا في توظيف الرموز الدينية والصوفية والتاريخية والفلسفية، والأدبية :
كما في نصه : (أنبئوني يا بناة العالم ) 4
أنبئني يا سقراطُ عن المقتولين بسُمَ
الدّقائِق السرية في هزائم الزّنجِ والبلقان
أَنبئني يا همنغواي عن الغرقى في أقبية البحر الملآن
بالأحاجي والألغاز
أَنبئني يا غسان كنفاني عن المغدورين
في المدن اللامرئية
أَنبئني يا بوشكين عن الرائحين حَتْفَ أُنوفِهم قُبَيلَ
انبِلاجِ غُبار المحاكمة
أَنبئني يا بدر عن الصّرْعى بسلاحِ الخَديعةِ والنُّكران
أَنبئني يا طاغور كيف أرتشَفَ الأناشيد
الصُّوفية، وأموتُ في صومعةِ النّسيان
أَنبئني يا هرمس متى أقطُفُ ثَمرةَ الشَّهوةِ
وألتقِط حبَّةَ النّدامةِ
أَنبئني يا غاندي وجيفارا وكاسترو و يا أبا عمّار متى أرى
الحريةَ الحمراءَ تتبرَّجُ في ساحاتِ الإعدام
وتتفجَّرُ في ضَمائِرنا
كأزاهيرِ النيلِ والفُرات
هذا التوظيف الذي رأيناه ينطلق من تجربة شعرية جديدة تحاول توحيد الرؤية الفكرية مع الرؤية الشعرية، مما أضفى على شعره خصوصية معينة ووهبه مذاقا مميزاً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة