د.وسام حسين العبيدي
الكتابةُ عن شاعرٍ ما – أيا كان انتماؤه المذهبي أو الفكري- ينبغي أن تنصب على منجزه الشعري من دون النظر إلى ما وراء ذلك المنجز، من ميولٍ فكرية تمثِّل قناعات الشاعر، أو سلوكيات صدرت عنه؛ لأجل الخروج بنتائج موضوعية تتّصِل بالحكم على جودة ذلك المنتج (الشعري) من عدمه، وإلا لو شفعنا ذلك المسلك في تقييم منجز الشاعر، بالنظر إلى ما سواه، من سلوكيات وأقوال صدرت عن ذلك الشاعر، لاستحال لنا أن نتوصَّلَ إلى ما نبتغيه من تقييم موضوعي لمنجز أي شاعرٍ كان..
هذه المقدِّمة أسوقها، وأنا أقرأ – عبر الفضاء الأزرق- لبعض الأصدقاء النُقّاد، موقفًا من شاعرٍ ما، يبنونه لا بالنظر إلى محتوى قصيدةٍ واحدة، ومن ثَمّ تقييمها من حيث الأسلوب، والعاطفة، والفكرة، وغير ذلك من مجسّات التقييم الفني للنصوص الأدبية، بل لأنّ صاحبها كان بوقًا للسلطة، ولأنها – القصيدة- في صلب الحديث عن شخصية تمثل رمزًا للإباء والصمود بوجه الظلم؛ فلذا ينبني ذلك الموقف «الناقم» على القصيدة من قِبل الناقد، وهنا حين يضع الناقد نظارة العاطفة أو المواقف الجانبية للشاعر صاحب النص، على عينيه مقيِّمًا من خلالها تجربة الشاعر بمجملها أو النص الذي تصدى لتقييمه، يكون والحالة هذه على حدٍّ سواء مع أدنى مستوىً نفترضه للمتلقّي، وبتعبيرٍ أكثر دقة، نصفه بالمتلقّي الساذج، الذي لا يفصل بين المنتج من حيث الجودة والرداءة، وبين البلد الذي أنجز ذلك المنتج، فيحكم حينها لا على المُنتٓج، بل على ذلك البلد بحسب ما استقرّ في وعيه أو متخيله من صورة سلبية، أو صورةٍ إيجابية، ويسحب حكمُهُ على البلد حكمَهُ على ما يصدر عنها من منتج، وهذا التعميم ليس إلا نتاج العقل المتكاسل عن إعادة النظر من جديد فيما يصدر عن الٱخرين، فيُركن العقلُ جانبًا، ويكتفي مستريحًا بذلك التعميم، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على أولئك النقّاد، ممّن شطب بجرّة قلم على منجز شاعرٍ ما؛ لكونه يقف بالضدِّ من مذهبه أو دينه أو منظومته الفكرية، أو مسلكه الاجتماعي أو السياسي، ولعل أكثر المصاديق في واقع حياتنا الثقافية لهذه الظاهرة المٓرٓضية، هو ما نقرأه من انتقاد لشاعرين عراقيّٓين كبيرَين، هما: الجواهري، وعبد الرزاق عبد الواحد، ولا سيما في قصيدتيهما: العينية للأول، والميميّة للٱخر في رثاء/ تأبين الإمام الحسين (ع) وعلى الرغم مما في القصيدة من مضامين رفيعة، وصُورٍ بيانية بالغة في الطرافة، وتمكّنٍ عالٍ في السبك اللغوي، ما جعلهما أكثر القصائد شيوعًا وسيرورةً عبر الفضاء التواصلي، ناهيك عن غيره من مسارب النشر والإعلام، لاسيّما في أيام استذكار تلك الفاجعة العظيمة، وعلى الرغم من ذلك، فإنهما – العينية والميمية- يحصدان من «التنمُّر النقدي» من تبخيس بقيمتهما الفنية والموضوعية؛ لكونهما يتّصلان بشاعِرَين لهما ما لهما وعليهما ما عليهما، ولكنّ «النظرة الناقمة» عليهما، تحرصُ كلَّ الحرصِ على إبداء مساوئهما فقط، بإظهارهما شاعرَين مدّاحَين، لهَثا وراء بريق الدنيا، من مدح الأنظمة الحاكمة المحلّية والإقليمية على ما فيها من فساد وإفساد؛ ولهذا السبب، لا يصلح – وَفقًا للنظرة الأحادية لهما- بحال، كل ما صدر عنهما من رثاءٍ وتأبين، لشخصية الإمام الحسين (ع) تلك الشخصية الرافضة للظلم والفساد، ويجب – وَفقًا للنظرة الأحادية- استهجان هاتين القصيدتين، وتبخيس قيمتهما الفنية، وإبداء كل ما من شأنه إقصاء أثرهما العاطفي العالق على جدار الذاكرة الجمعية كلما يحين وقت استذكار تلك الفاجعة. ولعل تفكيك صورة المطابقة بين الشاعر ومنجزه، لا تحتاج إلى عناء، حين يكون العقل حاكمًا مسيطِرًا على الميول، وفي تراثنا العربي القديم، على الرغم مما شابه من هيمنةٍ للمزاج في كثير من أحكامه النقدية، إلا أنّنا نشهد في بعض أجزائه وعيًا سبق وعي هؤلاء النقّاد المعاصرين، الذين اطّلعـوا علـى ما في الحداثة وما في بعدهـا من طروحـات وغيرهـا مـن مستجـدات المعـارف الإنسانيـة التي تدفع بمن يتصل بها، أن يكون على قدرٍ عالٍ من الموضوعية في الحكم على منجز الآخرين.
ومأثورٌ ذلك القول عن علي بن أبي طالب ع – وهو الطُلعة في البلاغة العربية وابن بجدة الفصاحة وسيدها- الذي فيه إنصافٌ لشاعريَّة امرئ القيس، على الرغم مما شاب حياته من عهرٍ، وتهتّكٍ، ومُجون، ومع ذلك لم يحِدْ عنه في كونه الشاعر الأول مرتبةً من حيث الجودة في السبك، والابتكار في الصُوَر، كذلك ما قاله القاضي الجرجانيُّ في مَن قَدحَ على المتنبي بقلّة الورع، وفساد الدين، معرِبًا أن هذه المثالب «العَقَدِيّة/ السلوكيَّة» لا تمتُّ بصلةٍ إلى منجزه الشعري من حيث الجودة أو الرداءة، بقوله منصِفًا أبا الطيب: ((فلو كانت الديانةُ عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويُحذف ذكرُهُ إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمةُ عليه بالكفر [….] ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر)) ولهذا أجد ما يُثار – بشكلٍ دٓوريٍّ مستمر- من انتقاد لهذين الشاعرين، لا يمتُّ بصلة إلى النقد الموضوعي، ومن هذا الباب، يمكن لنا أن نتحرّر في أحكامنا من سطوة العاطفة التي يُمليها الانتماء لمذهبٍ ما دينيٍّ كان أو فكري، فنجعل حكمنا بمعزلٍ عن الشخص مهما تقاطعنا وتوجّهاته الفكرية، أو سلوكياته، وهذا لَعمـري مصداق ما يدعو إليه العقل والفطرة السليمة، فضلا عن المنقول من آيات الله الكريمة التي تدعو إلى إنصاف الآخر بكل موضوعية وحيادية، وما قوله سبحانه وتعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) أو قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوـَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللّـَهَ خَبِيـرٌ بِمَا تَعْمَلُـونَ)) إلا تأكيـدٌ لهـذا المبـدأ الإنساني الرحيب فـي إنصـاف الآخـر والتعامـل معــه بموضوعيـة، بغـضِّ النظـر عن نقـاط الاختـلاف التـي تعتـوره.