إلياس الطريبق
في مائة وخمس صفحات من القطع الصغير وعن دار مقاربات (فاس 2020) يصطحبنا محمد بازي في رحلته الحجازية إلى الديار المقدسة، هذه الرحلة التي افتتن المغاربة بها ودأبوا على تسجيلها وتدوينها والإحاطة بها لما تمثله في وعيهم الديني والروحي.
العنوان:
يكتسي العنوان أهمية لا تقل عن النص نفسه، فالعنوان نص ملحق مباشر، وهو الأثر كما قال ليو هوك Leo Hoek، ويمتلك أولوية على كل العناصر الأخرى المكونة للنص. ننطلق من العنوان لنكتشف معا حمولة النص ودلالاته من خلال الوظائف التي يلعبها، فهو «سلوى الأسفار في الرحلة إلى خير الديار»؛ عنوان رأسي يتكون من مركب اسمي (سلوى الأسفار)، عامل ربطي (في)، عامل أجناسي (الرحلة)، عامل ربطي (إلى)، وعامل فضائي (خير الديار). ثم عنوان فرعي يتكون هو الآخر من عامل زماني (ثلاثون يوما)، عامل ربطي (في)، وعامل فضائي (رحاب الحرمين).
عنوانان نستشف من خلالهما القصدية ألا وهي خير الديار كناية عن الديار المقدسة (مكة والمدينة)، نستشف منهما أيضا مدة الإقامة وامتدادها الزمني المشروط (ثلاثون يوما)، كما نستشف أيضا نوع الكتابة، أو جنسها الأدبي، ألا وهو الرحلة، ونوعها الرحلة العمرية، بما هي رحلة دينية روحية مقدسة. لكن هذا الجنس ليس معطى ثابتا، حيث سنكتشف أن هناك تداخلا واضحا بين الأجناس فيما بينها، فيما يشبه خلطة إبداعية عمد الكاتب إليها قصدا.
تداخل الأجناس:
في هذه الرحلة صغيرة الحجم نقف على تداخل أجناسي تم توظيفه بشكل فني وإبداعي، حيث ينجح الكاتب في إيقاعنا في فخ مفترق قرائي ما بين اليوميات وأدب الرسائل، ولا نستطيع الكشف عن ذلك إلا عندما يقرر الكاتب ذلك قائلا: «أيتها المقيمة في قصور الكنايات المليحة هذه رسائلي إليك من رحاب الحرين ذاتَ اعتمار، أطالعها وأنا بعيد في منتهى المدى، قريب من زمن مضى، شاكرا لكِ حفاظك عليها كما أمّلت فيك… وقد ارتأيت اقتسامها مع القارئ لا إعجابا بالعمل القليل أو رياءً، بل بيانا لنعم الله تعالى التي لا تحصى» (ص.5) ولا نعرف على وجه التحديد من هو المخاطب هنا، ولا نكشف اللثام عن هويته، حتى تقودنا رحلة القراءة إلى الجملة الأخيرة من الرسالة الأولى التي نفهم من خلالها أن الشخص الموجه إليه بالخطاب هو زوجة الكاتب التي كانت تتلقى رسائله، ومثلما تنتهي الرسائل دائما، ختم الكاتب رسالته بهذه الجملة الأخيرة قائلا: «سأملأ انتظاري بالتأمل واستكشاف المكان، وإجراء بعض الاتصالات مع العائلة. اعتني بنفسك والأطفال، واحرصي أن تشغليهم عن غيابي بحنانك وجميل أسلوبك». (ص.11)
من هنا نكتشف أن الرحلة إلى الحرمين تحولت في الحقيقة إلى مجموعة من الرسائل، ما مجموعه أربع وعشرون رسالة على امتداد ثلاثين يوما في رحاب الحرمين الشريفين، وعوض أن تكون رحلة تقليدية تطغى عليها المشهدية والوصف الممل، ارتأى صاحبها صياغتها في شكل رسائل إلى الغياب، إلى زوجته البعيدة، مفضلا إشراكها في ثنايا ودروب هذه الرحلة المقدسة على طريقته، عن طريق الكلمة العائمة في بحر البياض الصوفي والعرفاني. ذلك أن الرحالة انزاح عن الوعي التقليدي للكتابة الرحلية إلى فضاء أرحب وأوسع هو فضاء كتابة اليوميات وما يقع للرحالة من مصادفات ومشاهدات ومناسك خلال فترة الإقامة، ثم تدبيجها على شكل رسائل، كل رسالة تحمل عنوانا بارزا يشكل المدخل القرائي إليها، وبالتالي فإن الحسم في جنس هذا النص الأدبي المسمى سلوى الأسفار أصبح موكولا إلى المهيمن القرائي الذي لا يحدده لا العنوان، ولا تصدير الكتاب على أساس أنه ضرب من اليوميات، بل إلى القالب الأدبي الإبداعي الذي ارتكن إليه الرحالة ألا وهو أدب الرسائل ومقام التداول الذي ترتكز فيه ذواتا الترسل (المرسل/ الرحالة) و(المرسل إليه/ الزوجة) والمقام (رحلة دينية).
اللغة:
تمتح لغة محمد بازي في رحلته من الخطاب الصوفي العرفاني بشكل بارز، لا تتسم بالغموض بقدر ما تتسم بوضوح العبارة وانشداد الدلالة إلى المدلول المبحر في المعنى الشعري والصوفي، لغة لا ترتكن إلى المقول العادي أو إلى خطاب الرحلة الوصفي فقط، بقدر ما تشكل خطابا قوامه الصور والاستعارات والمجازات اللغوية المحملة بالمعاني وشطآنها، كما الأحلام والمناجي والدعاء والرؤى والإشارة تأخذ بالنصيب الوافر منها ومن تشكلاتها.
تتوزع اللغة على الذات، ذات الرحالة بما هي روح فياضة، تواقة، متعطشة، تبحث عن الارتواء والصفاء الروحي، وتتوزع على المكان باعتباره بؤرة الحدث الرحلي وفضاء تسبح الذات فيه وتغوص عميقا بما يحمل من دلالات دينية وروحية، وبما هو فضاء تجسد الحقائق والغايات، ففي وصف الذات يقول «في صدري زخات أخرى فرحة تلاحق طفلا يجري داخلي لمشاهدة المقام» (ص26) وصف ينسج من لغة الصور معناه في الفهوم والعقول بلغة الكاتب ويستولي على الذوق لإفهام ما يجري ويعتمل في نفس طفل صغير تتلاحق داخله الأفراح لمشاهدة مقام النبي صلى الله عليه وسلم. يقول أيضا: «تقذفني الآن معاني الحضور البهي، آلاف الناس يعبرون مداهم البعيد بين محّار البياض وقواقع النور، مسعاهم مسعاي، فرقتنا البلدان ولاقتنا الطائرات والمطارات والفنادق، وأمل المشاهدات، وكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله شعار» (ص43) وفي جهة أهرى يصف بهجته وفرحته الغامرة وهو يستعد للإحرام في الكعبة، يقول « مع الماء الدافئ اندلقت إلى الداخل بهجة وفرحة غامرة، لبست السكينة في الإحرام ولبستني الرحمة والسعة والسعادة والبهجة الغريبة، بداية السكون في حضن النسك العظيم، أمر شبيه بالولادة … خلصت نفسي القديمة، ودثرت البدن بالبياض» (ص.48)، هو أمر شبيه بالولادة، خروج روح من روح، ووليد من وليد، روح غارقة في الملذات والمفارقات، إلى روح تغتسل بالبياض، وتتطهر من الأردان والذنوب والآثام. ثم وصوله إلى لحظة الارتواء والإشباع الذاتي قائلا: «رفرف طائر أبيض في سماء الروح متنعما بالبياض الذي رأى، ومرتويا من صفاء المكان وإشراقته (…) انتشت النفس لذلك مرات وسعدتْ وارتقتْ في بهجتها الغريبة» (ص62)، وعندما يخلو المكان في نفسه فإنه يصفه باستغراق طويل إجلالا لمظاهر العظمة الذي يحيل عليه وعلى القدسية الطافحة من بين ثناياه وأرجائه «أشرفنا على المسجد الحرام، فاشرأبت العيون إلى بابه الكبير (…) التفت مداريا دمعي فإذا الجمع في مثل ما أنا فيه من الوجد والحال أو أكثر. (…) وتسمرت العينان على البيت العتيق وسبح القلب بحمد ربه مرات ومرات، ثم شرعنا في الطواف…» (ص.53) وهكذا يحدث عندما يشد الرحالة منظر من مناظر الجلال المبطن في سيمياء الأمكنة بدءا من الكعبة الشريفة والحجر الأسود وجبال مكة، كجبل النور، وغار حراء، والمسجد النبوي، فيأبي إلا أن يمعن في ذكر أوصافه وتفاصيله والتعريج على تاريخه، وماضيه، والتساؤل في حاضره. يقول مستحضرا عظمة الخالق وعدد خلقه «ظللت أقرأ صفحات الوجوه وأفكر في عظمة الله، وعدد الخلق الذين حجوا إلى بيت الله متضرعين، تاركين الأهل والمتاع، مبتهلين، مجاهدين.. أحاسيس كثيرة تحركت داخلي كلها إجلال لمقام الربوبية (…) معالم حاضرة أتتبعها في صمت، وأزداد في كل لحظة يقينا بعظمة الدين الإسلامي، وعظمة الرسابة التي حملها النبي ص إلى الناس» (ص.52)
نورس في سماء البياض:
هو نورس في حقيقة الأمر، ترك البحر خلفه ليقابل بحرا من نوع آخر، بحر استعاره ليكون مسبح تأملاته وأفكاره وعباداته، استعار منه السعة والامتداد والرهبانية، يقول في رسالته الأخيرة (ص.98) «كم احتال زورق الشهوة كي يدخل بحر الذنوب» و» كم عصّبتْ يد الشيطان عين القلب في السراب الأبعد (…) أخيرا غبرت الروح بحر الاغترار، ثم رست متعبة سفينة البدن (…) وكنت مجدافا لمركب مكسور .. يمخر الخسارات السفلى ولا يصعد… « (ص. 99) هو بحر غير الذي نعرف، بحر ترتاده الأنفس خفية، وتسبح فيه الخطايا مغرقة أهلها في القعر الأسفل منه، استبدله الرحالة ببحر من فيوض الأنوار والتجليات، بحرٌ الغرقُ فيه مستحب، والسباحة فيه عبادة وطهارة. هو أيضا صورة للرحالة المسلم القلق حيال حال المسلمين وتدني أحوالهم، وهو أيضا صورة للمثقف الذي لا تخلو حياته من الإيمان والاستبصار حيث يقول (ص43) «إنني ألفت أن أحيا بقلب مؤمن وعين كاتب، لكن قلب المؤمن هنا أبصر أكثر، غالب فتغلّب فأعمى عين الكاتب». كما نرى كيف يتدافع العقل والإيمان باعتباره منبع القلب ليعلو أحدهما الآخر. الكتاب أيضا تأملات في المشاهد والصور وغوص في دلالاتها العميقة وعظيم ما تحمله من قيم إنسانية كونية ترتبط بالأسمى، بالمقدس، بالإلهي بعيدا عن ضوضاء العالم وصخب الدنيا وحقارة المطامع الدنيوية الصغيرة. رسالة طافحة بالتودد والتوسل والدعاء، رسالة وكأنها بيان توبة متأخرة صادرة عن نفس عرفت الحق فلم تخالفه في نفسها واحتمت به أمام شراك الهوى والحيرة والاضطراب والتردد، يظل على ذلك الحال مبتهلا متذللا حتى يسمع في قرارة صدره بصوت رباني ملؤه الرحمة والعطف والحنان» قال: اصعد إلى ما شاء ربك واسعد.. اصعد.. هذا بحرك صافيا مبهجا والروح لا تنفك تمتد.. لهذا الملكوت البهي اختارك سيدي…» (ص.101) وكأن الرحلة هنا بلغت منتهاها وحققت مبتغاها وعانقت نقطة الوصول، الذات هنا هي نورس كان في العتمة عثر في غفلة على بحره الصافي، عثر على الحقيقة، عثر على البياض فاصطبغ بلونه وتماهى معه حد الانتشاء.
كاتب مغربي