محمد زكي ابراهيم
إنني أؤمن أن السياسة الرصينة تأتي عبر البحث والدراسة والتأمل. ولا تحرز النجاح إلا بالمران والاطلاع والتفكير. لأنها في الأصل مظهر من مظاهر الحضارة، وليست مجرد سلطة عليا للمجتمع والناس.
ويستطيع القارئ أن يتلمس هذه الناحية في مذكرات الزعماء، وقادة الأحزاب والمنظمات، في العالم. فهناك تقليد درج عليه المسؤولون في كثير من البلدان، يقضي بتدوين خلاصة تجاربهم السياسية. وتسليط الضوء على الإشكالات التي حدثت خلال توليهم السلطة. وتحرص دور النشر الكبرى على الاضطلاع بهذه المهمة، عبر طبع هذه المذكرات، وتوزيعها في شتى بقاع المعمورة، وجني أرباح طائلة منها. وليس هذا بغريب، فقد بيع من مذكرات الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، مليون نسخة خلال الشهور الأولى من طباعتها، من مجموع ثلاثة ملايين نسخة مطبوعة. عدا عن عشرات الآلاف من النسخ الإلكترونية. وتكمن أهمية هذه الكتب في أنها أزاحت الستار عن أسرار لم تكن متاحة للرأي العام، وقدمت للقارئ والباحث حقائق تاريخية مهمة تتعلق بالحوادث الكبرى التي شهدها العالم في الماضي القريب.
ولحسن الحظ فإن سياسيين عراقيين وعرباً، انتبهوا إلى هذه الناحية، ودونوا شهاداتهم، أو أدلوا بها إلى محررين محترفين، بعد سنوات من اعتزالهم العمل السياسي. فأزاحوا الغموض الذي أحاط بملفات شائكة من التاريخ المعاصر. كما تلقف هذه الفكرة قادة الجيوش، الذين خاضوا العديد من المعارك الفاصلة، أو شاركوا في الانقلابات العسكرية، أو عاصروا التغييرات السياسية.
وفي العادة فإن تدوين هذه المذكرات، الذي يأتي بعد وقت مناسب، يمتاز في الغالب بالموضوعية والتجرد، لزوال الأسباب التي تدفع باتجاه إخفاء الحقائق، أو الالتفاف عليها. فقد زال الخطر الذي يتربص بصاحب المذكرات، أثناء توليه السلطة أو بعد خروجه منها بوقت قصير. كما أن الرغبة في دعم سياسات ما، قد انتفت تماماً. ومع ذلك فإن آفة النسيان لا بد أن تترك خدوشاً في الذاكرة، وتسمح بتقمص أدوار مفتعلة. كما أن البعض ممن لم تفارقه النرجسية وحب الذات، يبالغ في نسبة أدوار غير حقيقية لنفسه. حتى لو كانت هذه الحوادث فرعية أو هامشية.
وقد وجدت أثناء دراستي لتاريخ العراق في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أن عدداً قليلاً من رموز تلك الحقبة تمكن من كتابة شهاداته عنها. فقد كان مثل هذا الأمر محفوفاً بالمخاطر قبل عام 2003. ومما زاد في الطين بلة أن هؤلاء الأشخاص تعرضوا لحملات تشويه، وكانوا في نظر الناس شركاء في فشل النظام السياسي. كما تحمل بعضهم اتهامات لاذعة، وشكوكاً، بضلوعه في أعمال عنف ضد المعارضين، وغير ذلك من الأمور.
إن كتابات هؤلاء هي جزء مهم من التاريخ المعاصر. ومن المفيد إتاحة الفرصة لأصحابها للإدلاء بها قبل فوات الأوان. سيما وأن الكثير من شهود تلك المرحلة قد غادر هذا العالم، وغدا دوره خاضعاً للنقد والمراجعة والتمحيص، وهذه مهمة الباحثين في كل زمان ومكان.