رند علي
تمر علينا في هذه الأيام ذكرى ولادة واحدة من أبرز رائدات وأعلام النهضة الأدبية في تاريخ الأدب النسوي العربي في النصف الأول من القرن العشرين، الأديبة اللبنانية مي زيادة.
ولدت ماري زيادة في يوم ١٨٨٦/٢/١٢ في ناصرة فلسطين من أب لبناني وأم فلسطينية حيث ترعرت فيها واتمت مبادئ الدروس، حتى اذا بلغت عامها الرابع عشر دخلت مدرسة عينطورة في سنة ١٨٩٩ وهناك عُرفت بقوة الشخصية وحدة الذكاء وغرابة الأطوار . المرحلة الجديدة من حياتها بدأت تسافر أسرتها إلى مصر، واستقرت هناك بعد أن عمل والدها محرِّرًا لجريدة المحروسة.
في مصر تعرفت مي على مشاهير الأدب لامرتين وكورناري وشلر وبيرون وشلي وساحت معهم في أثير الإبداع ، كما قرأت أعمال رائدات الأدب ، ولاسيما مدام دو سي ف ينييه وجورج صاند ومدام دوستال، فقررت أن تسير في أثرهن ، وبدأت تكتب الشعر بالفرنسية. و قد أيقنت بعد مدة، أن اسمها لم يجذب القرّاء، خصوصا أولئك المفطورون إجمالاً على الأخذ بالظاهر ، فاختارت أسماً مستعاراً موسيقي الوقع ومثير للفضول : «إيزيس كوبيا» ( وإيزيس هي زوجة «أوزوريس» وترمز إلى العذراء ، وكوبيا هي ترجمة زيادة في اللاتينية). ووقّعت بهذا الأسم منشوراتها الأولى وثقتها بالنجاح لاتحد .
وشقت ايزيس كوبيا طريقها في اوساط الأدب المصرية بعد صدور باكورتها ( أزهار حلم) فلهجت بذكرها المجالس متسائلة عمن تكون تلك الأديبة الشاعرة، إلى أن ظهرت ماري زيادة آخر الأمر وانطلقت انطلاقة الحزم والأيمان.
وفي مصر كتبت مي بجرأة واستمرار في ( المحروسة) مجلة أبيها، وفي ( البروغره) و ( المقتطف) وغيرها من الصحف المصرية. فجذبت انتباه القراء إليها والتف حولها عدد من الادباء البارزين بينهم من جعلوا من منزلها صالونا أدبيا، كانوا يرتادونه كل ثلاثاء فيتباحثون في شؤون التأليف والترجمة ويتشاورون في جو رصين يشيع فيه الطمأنينة حُسن الفتاة العذب الذي يعززه الذكاء.
وكان من رواد صالونها ولي الدين يكن، طه حسين، خليل مطران، شبلي الشميل، انطون الجميل، إسماعيل صبري، يعقوب صروف، المازني، العقاد.
رسائل مي زيادة
في كتاب (رسائل مي زيادة .. صفحات وعبرات من أدب مي الخالد) الصادر عن دار الرافدين عام٢٠٢٠ نطالع رسائل هذه القامة النسوية الى عدد من الأدباء والكتاب البارزين واعلام النهضة العربية مثل جبران خليل جبران، باحثة البادية ( ملك حفني ناصف) ، يعقوب صروف ، أمين الريحاني وغيرهم من أعلام النهضة العربية.
وكان معروف عن مي تبينها لقضية تحرر المرأة العربية وتعليمها وتثقيفها ومشاركتها مع الرجل في الحياة الاجتماعية العامة ، وهذا الذي جعلها تعجب بآراء ومواقف باحثة البادية وهي ملك حفني ناصف الكاتبة المصرية المعروفة واحدى المجاهدات في سبيل تحرير المرأة . وكتبت عنها مي مؤلفاً عنوانه (باحثة البادية).
وقبل ان تتعرف إليها كتبت لها رسالتين تحثها فيها على مواصلة دعوتها في سبيل تحرير المرأة جاء في أحداها: فيا من ارتفع قلبها إلى فكرها ويامن انحنى فكرها على قلبها ، إيتها الباحثة الحكيمة لماذا تصمتين ؟
وكتبت لها أيضاً : ضمي يدك البارزة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد، ساعدني بتحرير المرأة بتعليمها واجباتها. إن صوتاً خارجاً من اعماق القلب، بل من اعماق الجراح كصوتك، قد يفعل في النفوس ما لا تفعله اصوات الأفكار . فهنيئاً لوطن يضم بين أبنائه مثيلاتك ، وهنيئاً لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك.
وكانت مي شغوفة جداً بكتابة الرسائل الأدبية، ومن هذه الرسائل: رسالة وجهتها الى ساعتها العزيزة وقد فقدتها في هنينة سوداء جاء فيها : بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو ، بين الثانية والثانية ! .
مي وذات التاج والصولجان !
كان لصاحبة ازهار حلم عدد من الرسائل مع مؤسس مجلة «المقتطف» يعقوب صروف فكان صروف من خيرة أصدقائها وكانت تمازحه دائماً في رسائلها فتخاطبه بـ: يا ذا التاج والصولجان، وفي رسالة كتبتها مي الى الدكتور صروف في كانون الثاني من عام ١٩١٩ تشكره عندما أهدى اليها مجموعة من المقتطف قائلةً : فتحت اليوم أحد الأجزاء ، فرأت عيني صورة رجل ترصع الأوسمة صدره ، فقلت في نفسي أن أوسمتك أنت فوق جميع الاوسمة جمالاً . كل سنة من سني المقتطف وسام خالد على صدرك لا ينال الصدأ من تبره ، ولا تعرف الغش دوره، بل إن ما فيه من السناء أبدي التألق على كر الدهور .
وفي شباط سنة ١٩١٩ طالعت مي مجلدات المقتطف فوقفت عند مقال للدكتور صروف عن بحيرة قارون بعنوان ( فتاة الغيوم ) فذكرتها له في الرسالة : وقد ادى بي ذلك إلى مطالعة كثير مما كتبته عن المصريين القدماء وآثارهم وفنونهم ، وكل فصل أجمل من ماضيه.
لاشك عندي أن كل كاتب يتمنى أن يكون له من يذكره على هذه الصورة بعد موته، واتمنى أن ينالني ما نال باحثة البادية من حسن الحظ لأن المخلصين قليلين بعد موت الكاتب. والعداء له والغيرة منه، وتعمد التصغير من شخصيته والنيل من مقامه يبرز إلى الوجود بعد سكونه في قلب الثرى.
وكان جبران خليل جبران، وقصتها معه هي الأشهر والأكثر تأثيرا رغم أنهما لم يلتقيا أبدا، ومع ذلك جمع بينهما كتاب واحد «بين المد والجزر» كتبته هي ورسمه هو الحبيب، ولا تزال رسائلها معه واحدة من أجمل نصوص الحب في الأدب المعاصر.
ومنها رسالة كتبتها في 15 يناير/كانون الثاني عام 1924 جاء فيها: «أعرف أنك محبوبي، وإني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرّط فيه؟ لا أدري.. الحمد لله أني أكتبه على ورق ولا أتلفّظ به، لأنك لو كنت حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى».
وأضافت: «حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحياناً، لأني بها حرة كل هذه الحرية. قل لي ما إذا كنت على ضلال أو هدى. فإني أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ما تقول.. وسواء كنت مخطئة فإن قلبي يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك.. غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال الأشكال والألوان، حصحصت نجمة لامعة واحدة هي الزهرة، أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟ ربما وُجد فيها من هي مثلي، لها جبران واحد، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق، وكل وحشة الليل، فتلقي القلم جانباً لتحتمي من الوحشة في اسم واحد: جبران».
وكذلك عندما طالعت مي (الأجنحة المتكسرة) لجبران كتبت له تطري بنهجها الطريف ولهجتها الصادقة وتناقشه في موضوا الزواج فتقول: « إننا لا نتفق في موضوع الزواج يا جبران. أنا أحترم أفكارك وأجلُ مبادئك، لأنني أعرفك صادقاً في تعزيزها، مخلصاً في الدفاع عنها، وكلُها ترمي إلى مقاصد شريفة. وأشاركك أيضاً في المبدأ الأساسي القائل بحرية المرأة، فكالرجل يجب أن تكون المرأة مطلقة الحرية في انتخاب زوجها من بين الشبان، تابعة بذلك ميولها والهاماتها الشخصية، لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره لها الجيران والمعارف».
واردفت : إني أشعر شعوراً شديداً بالقيود المقيدة بها المرأة ، تلك القيود الحريرية الدقيقة كنسيج العنكبوت المتينة متانة أسلاك الذهب. ولكن إذا جوزنا لسلمى ( سلمى كرامة بطلة الرواية) ولكل واحدة تماثل سلمى عواطف وسمواً وذكاءً الاجتماع بصديق شريف النفس عزيزها ، فهل يصح لكل امرأة لم تجد في الزواج السعادة التي حلمت بها وهي فتاة أن تختار لها صديقاً غير زوجها، وأن تجتمع بذلك على غير معرفة من هذا ، حتى وإن كان القصد من اجتماعهما الصلاة عند فتى الأجيال المصلوب؟ .
وأغلقت أبواب السعادة في وجه مي وفتحت لها أبوب الأحزان في سنة ١٩٢٨ ، حيث مات على التوالي صديقها يعقوب صروف وابواها وجبران ، فوجدت نفسها وحيدة في ذلك المنزل الذي طالما عمّر برواد صالتها وعودها في كنف ذويها الطمأنينة والرخاء. واعتزلت العالم ظناً منها أن الوحدة خير بلسم لكلومها المعنوية لكنها لم تلبث ان ضاقت في وحدتها فسافرت الى فرنسا وانكلترا بلد شكسبير وايطاليا حيث درست في جامعة «بروجيه» آثار اللغة الإيطالية وجالت في متاحفها وهناك أخذت بوادر الأعياء العقاب تظهر عليها فعادت الى مصر وازداد تبرمها وقصدت لبنان موطنها الأصلي في ربيع ١٩٣٧ ، ولكن بلا طائل . فرجعت الى القاهرة وكانت خفقة قلبها الأخيرة في ١٩ تشرين الثاني سنة ١٩٤١ .