يوسف عبود جويعد
من الطبيعي أن تتغير السرديات الروائية، وفق ما تمليه عليها الظروف المحيطة والمتغيرات الحداثوية، التي دخلت حياتنا، وتغلغلت في صميمها، وصارت جزءًا من الممارسات اليومية التي نتعامل معها، وكذلك أضحت سلوكاً حياتياً مهماً، والسبب يعود إلى أن التقنيات الحديثة التي اجتاحت المعمورة، وانتشرت في أرجاء الأرض، لتدخل كل البيوت، لضرورات لا بد منها، ولأنها حالة يجب الانتقال إليها، كنوع من أنواع التطور الذي حصل، ومن تلك التقنيات الحديثة والعصرية، الانترنيت، وفيه ننتقل إلى صفحات التواصل الاجتماعي، وأكبر منظومة تواصلية اجتماعية هو الفيس بوك، الذي منحنا فرصة كبيرة للاتصال بالعالم ومعرفة ما يدور على وجه الأرض، ولنتعرف على أصدقاء جدد ونزداد خبرة ومعلومة، كما أن ممارساتنا لهذه الصفحة التواصلية، صار جزءًا مهم من اهتماماتنا اليومية، وظهرت حكايات وقصص وأحداث تنتمي إلى تلك الممارسة اليومية، ومن الطبيعي أن نُفاجأ بدخول هذه الحكايات ضمن سردياتنا الأدبية الروائية، ورواية (آيو) للروائي سعد سعيد، تقدم لنا واحدة من تلك السرديات التي تعاملت مع العالم الأزرق بصفة غالبة وواضحة وطبيعية، لنعيش مع هذا العالم الافتراضي ولا نبرحه، حتى نهاية الأحداث، إذ إن بطل هذا النص أنس حلمي، روائي معروف، ويسكن شقة لوحده، بعد أن سافرت أسرته خارج البلاد، ويزاول حياته اليومية بين الكتابة، وفتح صفحته التواصلية على اللاب توب، وشرب الخمر، وإعداد الطعام، وهو موظف في إحدى الوزارات ويتقاضى راتباً ضئيلاً لا يكاد يصل به إلى نهاية الشهر، ويسهر الليل بطوله يتابع صفحته وينشر فيها، ويتابع التعليقات والإعجابات ويرد عليها.
وهكذا ينسج لنا الروائي أحداثاً سردية كبيرة من هذا العالم الأزرق، العالم الافتراضي، تبدأ بظهور شخصية نائلة الحليم، وتعليقها على واحدة من منشورات أنس حلمي:
أنس حلمي : شرفني وأسعدني مرورك سيدتي .
ثم عاد إلى بقية التعليقات، والاستحسان والاستنكار يتنازعانه، غير أن الأمر لن يحتج أكثر من بضع عشرة ثانية لينتبه إلى وجود تعليق جديد على المنشور.. كانت هي:
نائلة الحليم : لم أتوقع أن ترد عليّ سيدي، لكنني أعرف أنني كنت على حق
في تعليقي، ومع ذلك فأنا مدينة لك باعتذار لصلافتي واحتراماً لروحك الرياضية.
إن البناء الفني لهذا النص السردي يعتمد على الاهتمام الأكبر في الأجواء والمناخ الذي يخلفه العالم الأزرق على شؤون الحياة كافة، وهو أمر بات طبيعياً لدى الكثير من الناس، كونه بات أمراً مفروغاً منه، ونكتشف أيضاً من خلال رسم ملامح شخصية أنس، أنه ميال إلى الفوضى في حياته، فأشياؤه داخل الشقة مبعثرة، ويستيقظ متأخراً عن الدوام بسبب السهر لساعة متأخرة من الليل، فضلاً عن أنه يعاني من ضائقة مالية خانقة، ومن ممارساته الحياتية حضور جمعة المتنبي:
(أول ما فعله، كان إلقاء التحية على صديقه الحاج محمد صاحب المقهى الأشهر في المتنبي، الذي يواجهه حال خروجه من سوق السراي، ثم أتم جولته في المقهى لتحية أصدقائه المنتشرين على التخوت هناك، قبل أن يواصل سيره إلى مستقره «قيصرية حنش ووزير الجاي حفوظي»، هناك، كانت الوجوه باسمة والنقاشات محتدمة، فشعر بصفاء يمتلك عليه كيانه: «أنا أنتمي إلى هنا»، ثم راح يبحث عن المزيد من الوجوه المألوفة من حوله، فابتسمت له حتى الوجوه غير المألوفة! ذلك أشعره بفرح غامر. وفجأة وجد صديقه نديم أمامه)ص 64
ثم ننتقل إلى البؤرة الرئيسة لهذا النص، ألا وهي نائلة التي انشغل بها وظل يفكر بها، وظلت لقاءاتهما داخل الفيس مستمرة، وتتعمق العلاقة بينهما للحد الذي فيه تظهر ومن خلال الفديو وهي عارية، ولكن دون أن يرى وجهها، فتثير شجونه ويتعلق بها أكثر، بعدها يتفاجأ باتصال هاتفي، يخبره فيها بأنهم من شركة الشرف للتحويلات المالية، وهناك حوالة مالية باسمه وعليه الحضور لاستلامها، يستغرب الأمر لأنه لا يتوقع أن تصله حوالة مالية من أي شخص، ويذهب هناك ليكتشف أن المبلغ المحول له (دفتر)، أي عشرة آلاف دولار، وهو مبلغ ضخم، وعندما أراد معرفة من الذي حول له هذا المبلغ أخبروه، سيدة اسمها نائلة خليل، فيشعر بالفخر والاعتزاز لموقفها الإنساني، وبعد أن كان يمتنع بعد أن تطلب منه أن يقول لها أحبك، صار يجلها ويحبها ويحترمها، ولا يستطيع الاستغناء عنها، لموقفها النبيل الذي غير مجرى حياته، فصار يتسوق الغذاء، ويخزنه، وكذلك الخمر، واستمرت لقاءاتهما عبر صفحة التواصل وصار لا يطيق فراقها، ونصل إلى المفاجأة التي هي حالة التأزم للنص السردي، وبلوغ ذروته باختفاء نائلة، واختفاء صفحتها، الأمر الذي جعل أنس يبحث عنها ويحاول الوصول إليها دون فائدة تذكر، ثم تتطور الأحداث وتحتدم وتكبر، لنصل الى عملية أشبه بالمؤامرة لتشويه فكره وعيه وعقله، ومحاولة إصابته بحالة من الهستيريا أو الجنون، وذلك بظهور أسماء ورموز كبيرة وخطيرة تتحدث معه:
لا يا أستاذ أنس
أنا جيمس جويس
ويدور حديث شبه مشوش بينهما
ثم:
أنا العراق ويجب أن تصدقني
حسناً يا سيد عراق، سأسمع تفضل
وتزداد تلك الشخصيات وتصل إلى رموز أكبر وأعمق، حتى تتحقق غايتهم، بإصابة الروائي انس حلمي بحالة هستيريا، ونكتشف أنها مؤامرة مدبرة من أجل تشويه عقل ووعي الروائي وإصابته بالجنون، وسوف نجد هذه التفاصيل داخل متن النص السردي بشكل أوضح، ليصل به الأمر إلى دخوله مستشفى الرشاد للأمراض العقلية:
(كان (أنس حلمي) تحت المراقبة لا داخل شبكة الانترنيت فقط، بل حتى في عالمه الذي يتصوره واقعياً، بل حتى في بيته من خلال مئات الكاميرات بالغة التطور التي زرعها رجالنا هناك من دون أن يدري، كما أننا استخدمنا كل معلوماته الشخصية التي باح بها على الشبكة، واستطعنا أن نهز ثقته بنفسه من خلال الاتصالات المختلفة التي لم ولن يستطيع ان يفسرها.) ص 191