بمناسبة “باذبين:
علي سعدون
بعد مجموعتيه “الحياة بالنيابة” و “الحالم يستيقظ” يخطو علي محمود خضير نحو افق ينزاح قليلا عن الشعر الخالص الذي نعرفه – الشعر الذي يتحدد بحدود النص شكلا ومضمونا ولا يتعداه الى اكثر من ذلك -، بل ولا يطمع باستثمار تقانات مختلفة يمكنها ان ترتقي بقصيدة النثر الى افقها المعرفي الذي تأسست من اجله وبسببه وبدعواه. وعليه يمكننا مداولة شعر خضير باعتبارات الانفتاح على تقنيات متجددة في النص.. ذلك انه في معظم اشتغالاته يريد ان يقول : ان الشعر بصورته السائدة لايمكنه ان يحقق الحضور الثقافي ما لم يفكر عميقا بالتغاير والتضاد، ومن ثم بحفريات جديدة تؤهله ان يكون في صميم عملية التثاقف والمعرفة. وعليه فقد بنى خضير ستراتيجيته على وفق البعد الرمزي في كتابة النص.. رسوخ النص في بنية سائدة ومحددات معروفة يحيلنا الى مقولة المطابقة بوصفها من ركائز النقد البنيوي.
المجموعتان اللتان انجزهما خضير، عمِلا على تأكيد ان الرمزية في الشعر العراقي لم تُستنفد بعد، وان نصوص المعنى العميق الذي يخضّب نفسه برمزية عالية ماتزال تخطف بريقها من اللغة وحفرياتها. بهذا التوصيف يمكننا ان نتعامل مع نصوصه ونقرأها بعناية وفحص كبيرين، توصيف سيعتمد على ما يختطفه خضير: “بالخروج من الليل بأكبر التماعات ممكنة” على حد تعبير ادونيس في مناسبة تتيح لنا استثمارها على هذا النحو، تماما كما يحدث ان تخوض في تجربة شعرية لتستخلص منها التماعات اللغة والفكرة وحفرياتهما..
فـ”الحياة بالنيابة” يصغي فيها خضير الى ايقاعات الماضي والحاضر في الحياة العراقية، وينوب عن صدى الكوارث ويجعل من فكرته كنائبٍ عن حشد المغلوبين بالتضحية وهو يعلك مرارة الفقد والنسيان وبئر الكارثة الازلية العميق.، لكن سؤالا يظل يلوح في افق القراءة، مفاده : ماذا يفعل الشاعر غير أن ينوب عن التحولات الاجتماعية والسياسية واستشراف الايام الموجعة القادمة اسوة باستدعائه جدليات التاريخ، تاريخ الامكنة الغابرة على وجه التحديد؟.. معظم النصوص تنوب عن ذلك، لكنها عند علي محمود خضير تتصدى لموجبات القبح بمقصديات واعية منذ العنونة، انها اصالة اكثر من كونها نيابة عن حياة جديدة ترنو الى الماضي وتعيد انتاجه. اعني ان الحياة المنوب عنها كانت تشتغل شعريتها بالتأمل لا بتواتر العبارة، وتشتغل بهموم الروح وحساسيتها دون ان تقع في براثن النواح. فيما تنشغل شعريته في احلام الشجن بـ”الحالم يستيقظ” وهي كتابه الشعري الاول، بوصفها تأملات نتج عنها كسر افق التوقع في تداول اسئلة الوجود ومشهدياته التي تبدأ بالموت وتنتهي به، وهي مفارقة ان يكون الموت كاحتمال في فضاء شعري باذخ وغير منقطع عن قراءة الموت بوصفه ثقافة ومعرفة ومشهدا قابلا للتأويل لا الثبات والسكون والرتابة، حالة من حالات الألفة مع الموت الذي يجوب ارواحنا منذ سنوات الزغب الاولى وصولا الى الهرم والشيخوخة، يستثمره خضير كاحتمال لا كنتيجة وهو ما يتناغم مع الشعرية كمصطلح ومفهوم باعتبارها احتمال لا نتيجة.
هذان الكتابان: الحياة بالنيابة، والحالم يستيقظ، ينشدان شيئا من التفرد باللغة، شيئا غير سائد في لغة النص واحالاته على وفق اداء يتمتع بخصوصية وندرة. يمكننا ايضا عدّه تمرداً على اصول رسّختها قصيدة النثر منذ الثمانينيات، لايريد خضير ان تنتظم روحه الشعرية في هذين الكتابين بمتن تلك الاصول. على ان ذلك لا يعني التمرد بمعناه السلبي اكثر من استحضاره باعتبارات القيم المضافة، بافتراض ان ما تقدم من شعر في ظواهر الشعر العراقي السابقة يفتح افقا للإضافة وللمغايرة وللتقاطع ايضا..
يتنبّه في كتابه الاخير “باذبين” الى تعالق الشعر بالمعرفة، تعالق حساسية الشعر بالوعي الذي تنتجه المعرفة.، بالمكان الذي يختصر الازمنة ويعيد انتاجها كلما عصفت بالذاكرة كتلة من الحنين الطاغي الى ما هو مشع وحيّ وشاسع. الى ذلك كله يتنبّه علي محمود خضير، مثلما سيتنبّه الى أهمية السرد واستثماره في النص بصورة واسعة وكبيرة، وقد جاءت معظم هذه النصوص بسردية منقطعة النظير. سردٌ يأخذ بنسبية الاحالة في النظر الى الاشياء الجامدة والحيّة، ولا ينعتها بالمطلق ابدا. لقد دأبت قصيدة النثر على الاتيان باستبداد المطلق في نصوص كثيرة تراكمت منذ عقود وهي تنحى الى الخطاب الفلسفي بصورة او بأخرى. إذ ان التعبير عن المطلق في معظم نصوص قصيدة النثر، يأخذ مديات رسوخه من التكرار – تكرار الفكرة وتكرار النتائج وتكرار الاشارات الى حيّز محدد في المكان- ، في حين يأتي النسبي عند خضير لتحويل ذلك الرسوخ الى ضديد شخصي لذلك المطلق. علاقة جديدة لتأصيل فكرة النص بمناهضته للأساليب الراسخة في سواه. وسيعني هذا ان خضير يفكّر كثيرا في النص، الإعداد للنص يعمل على مقاربة ثقافية بين المعرفة والامتاع : “ما من فجرٍ في باذبين ، الفجرُ هو الناس” (باذبين/ ص36).
يتنبّه قارئ باذابين الى ان النصوص الحديثة المفرطة بالتجريب، صنعت ازمة بين اللغة وبين القارئ. الافراط كان يقود الى التهويم في معظم الحالات، وبالتالي سيرى قارئ هذا الكتاب الى نوع من العلاقة الحميمة بين الشعر بوصفه ادبية الادب بحسب جاكوبسن، وبين القارئ الذي يريد للنص ان يكون في اطار مداركه التخيلية والواقعية، بقطع النظر عن كسر افق التوقع الذي يعتمده الكاتب في الشعر والسرد على حد سواء. ويجري ذلك لا لسبب سوى التأكيد على صناعة الاثر بعد القراءة، علي محمود خضير ينتبه لهذه الخصيصة في هذا الكتاب : حفريات جديدة في اللغة وإحالات لاتنتهي عن تعالق المكان كبؤرة مشعة وفاعلة في النص/ اعني (علي الغربي)، الذي يستبد ويهمن على فكرة النصوص وفكرة واستدعاء التاريخ الشخصي. يعمد خضير الى جعل علي الغربي بنية منفعلة في التاريخ الشخصي الذي يطمح الى ان يكون تاريخا بديلا تقرأه المخيلة وتعمل على جعله احتمالا لافتا لاحقيقة. الشاعر غير معني بترسيخ الحقيقة اكثر من اهتمامه باكتشاف الاحتمالات المشعة والمتوهجة.
الشعر يحفر في الاحتمالات لا الحقائق، وهو ما دأب عليه خضير في باذبين.، حتى ان علي الغربي غدت في هذا الكتاب مدينة ورمزا يتشابه في مقصدياته مع رموز شعرية واجتماعية راسخة في الشعر العراقي.. الامكنة المشبعة بالأسطرة تنهمر في باذبين بطريقة تشعرك بقوة حضورها وتجعلك جزءا من فعالية النص، ستتمرّغ ناصيتك اسوة بالشاعر نفسه بترابها وملحها ورائحتها القوية:” في لحظة واحدة، يجمعك المرقد بنقيضين: حركةٍ وسكون. هديرٍ وخُبُوّ. دبيبِ زوارٍ ورقدةِ اموت. افواهٍ تلوكُ واخرى جرّدها الترابُ كلماتها الاخيرة” (باذبين/ ص29). ما سرّ هذه اللغة التي تغاير في النثر، وتحفّز المخيلة على انتاج لغة اخرى تناهض لغة الشاعر، مبتكرةً ايحاءً يضاهي الاحتمالات التي يريدها وعي الشاعر؟. الامر الذي سينتج بالضرورة وعيين متناظرين او متوازيين في فكرة تتسع على نحو لافت. وعي القارئ الذي سيرى الى امكنة الاولياء والائمة وقد غدت انوارهم كفيض في الروح حتى وإن جاء ذلك التعالق من بعيد.، مشهد الام اليتيمة التي تبتهل من سطح المنزل فيستجيب الامام في حالة من التماهي الذي يفطر جرحا ابديا في حياتنا الجنوبية.، وهي حياة يتحسس باطنيتها خضير بصورة دقيقة، ويعمل على تحشيد اكبر قدر من الاحالات بما يتناغم مع خطابها الذي يتفوق احيانا على اية لغة تريد ان تستثمره شعريا بالانزياح او بالتغاير وبجماليات اللغة وخطابها العالي.
اشياء كثيرة تريد نصوص باذبين ان تضيئها باللغة، بحساسية اللغة على وجه الدقة، تلك التي تحاكي المهمل في تاريخنا الشخصي الذي يغيب ويظهر كلما انفتحت امامنا ارهاصات استدعاء تاريخ المكان الذي نعدّه زمناً موارباً بمعنى من المعاني.. هذه النصوص تريد ان تقحم نفسها في الوصول الى البريق الذي تظلله العتمة الطويلة في الحياة العراقية التي يتجذر منها بريق علي الغربي بوصفه مكانا مشعا في باذبين التي تحتضن دلالته وترتقي بها الى مصاف الايقونات الشاخصة.
لا اشعر ان قصيدة النثر العراقية الجديدة، اعني نصوص قصيدة النثر ما بعد العام 2003 قد تخلّصت من الكلائش والديباجات التقليدية في المستهل والخاتمة وادوات الربط بين العبارات الا عند علي محمود خضير وعدد قليل من مجايليه كصفاء خلف وعلي وجيه وهلال كوتا ومهند الخيكاني وعلي رياض وعلي خليفة ومرتضى مريود وكرار حداد، واسماء قليلة اخرى. نصوص هؤلاء وفي مقدمتهم خضير، تريد ان تقول بتجربة جديدة في كتابة قصيدة النثر، تجربة ثقافية ومعرفية اكثر من كونها من فنون الامتاع المكتوبة شعرا. الامر الذي يتيح لنا ان نقرأها في منطقة اشتغال لمتبنيات الخطاب الشعري، لا الخطاب الشعري وحده خالصا ومعتدّا بنفسه مثلما في كل مرة وهي الصفة الغالبة لمعظم اشتغالنا في الشعر العراقي.