محمد زكي ابراهيم
من بين أكثر المفاهيم التي جرى تداولها في الآونة الأخيرة، واختلف الناس بشأنها بين مؤيد ومعارض، ومتحمس ومتجاهل، فكرة الحتمية الثقافية، ذات العلاقة المباشرة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وابتداءً فإن هذه الفكرة تعني تصنيف المجتمعات إلى متقدمة ومتخلفة، بحسب ما تملكه من قيم ومنجزات وتاريخ. أي أن الأولى التي يزخر سجلها بهذه المآثر وجدت لتتقدم، أما الثانية التي ليس بيديها شئ منها فقد وجدت لتقبع في المؤخرة. فالتقدم والتخلف حسب مفهوم الحتمية الثقافية خاصيتان جينيتان غير قابلتين للاستبدال أو الإصلاح. وعدد بعضهم هذه الميزات فقال أنها حب العمل والمال، والادخار، والثقة المتبادلة واحترام القانون.
إن مثل هذه النظرية تعني تكريس مبدأ الثبات في المجتمعات، وتعزيز مقولة التفوق العرقي المسؤولة عن ازدراء الأجناس وسيادة الجنس الأبيض الآري، أو فضل الغرب على ما عداه في الشرق والجنوب. وبموجبها فإن الفرصة الوحيدة المتاحة للبلدان الفقيرة هي التبعية للغرب، أو تقليد نموذجه الحداثي. رغم أن تخلف هذه البلدان مرتبط بالسلوك الغربي الذي تمثل بالاستعمار والاستغلال والهيمنة، على امتداد القرون.
وقد أثبت الواقع عدم صحة نظرية الثبات. فهناك شعوب كانت في حقبة ما بدائية، ثم تحضرت، مثل شعوب أوربا، وشرق آسيا. وأخرى كانت متفوقة ثم تراجعت. مثل العرب. كما أن هناك شعوباً ماتزال في منتصف الطريق في آسيا وأفريقيا. ومن الواضح أنه لا يوجد شئ في الثقافة اسمه الثبات ، فهي قابلة للطرح والإضافة والتعديل. تتغير في كل حقبة بناءً على مجموعة من العوامل والظروف، ولا تقف عند عصر ما. إذ أن معنى ثبات الثقافة انتفاء عامل التاريخ، أو العزلة التامة عن المحيط الخارجي.
واحتج مناصرو الحتمية الثقافية من المفكرين العرب بأن الأخذ بالتجربة الغربية في الحكم، أي الديمقراطية، لم يعط نتائج مقنعة في البلاد العربية. فهناك ممانعة مجتمعية تحكم عليها بالفشل، وتحول دون انطلاق التنمية. بل أن بعض الأنظمة الاستبدادية التي قادها العسكر في حقبة ما بعد الاستعمار كانت أكثر منها نجاحاً. وهذا دليل على أن القيم العربية التي تقوم على تقديس الأبطال، أو عبادة الأشخاص، غير قابلة للزوال.
وبالطبع فإن هؤلاء الأشخاص إنما يعبرون عن خيبة أمل مريرة تجاه ما حدث في بلدانهم، متناسين أن النموذج الغربي ليس نهاية المطاف، وليس هو الخيار الوحيد للتنمية. وهو إنما جاء بعد سلسلة طويلة من التجارب والحروب والمحاولات، التي كابدتها أوربا منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي. وتركت آثاراً بعيدة المدى في مسيرتها التنموية. ولم يعرفها غيرهم حتى وقت قريب.
إن المطلوب في البلاد العربية ليس استنساخ تجارب الغير، بل خلق مناخ ثقافي اقتصادي خاص، قادر على صنع التنمية، حتى لو كان خارج المنطق الغربي. وإذا ما نجحت مثل هذه المحاولة فسيكون الحديث عن حتمية ثقافية عالمية غير ذي معنى على الإطلاق.