محنة رجل الفكر في رواية فردقان

كه يلان مُحمد

تضجُ حياة المفكرين والفلاسفة بتقلبات ولا يستقر بهم المقام نتيجة مخاصمة المجتمع والسلطات للقيم التي يمثلها أصحاب الفكر ،وما عاشه هؤلاء من المعاناة الناجمة من المطاردة والمحاربة قد أسبغ إلى شخصياتهم خصوصية وفرادة لذلك تتحول مسيرة حياتهم إلى مصدر ملهم للكتابة الإبداعية لأنَّ المنجز الفكري لا ينفصل عن أنماط المعيشة واختبار التحديات والمواقف المثيرة ولا تتشكلُ رؤى فكرية بعيداً عن العراك مع الواقع ومكابدات حياتية عليه فإنَّ استعادة حياة القامات الفكرية في إطار السرد الروائي قد أصحبت موضع الاهتمام في الإشتغالات الإبداعية وغالبا ما يكون الغرض من هذا المنحى الإبداعي هو ترهين الأحداث التاريخية بحيثُ ما يسردهُ النص الروائي يزيدُ الوعي بالواقع والإشكاليات القائمة والحال هذه فإنَّ الروائي المصري يوسف زيدان يترصدُ في مؤلفاته ظاهرة العنف الديني والتزمت والنزاعات الطائفية في مراحل تاريخية بموازاة إضاءة دور رجال الفكر في الوقوف بوجه موجة التطرف العاتية إذ تناول في «عزازيل» حياة هيباتيا الأسكندرانية وتطور البطل على المستوى الفكري وهو يرحلُ بين عدة بلدان هذا إلى جانب تشخيصه لعوامل التطرف واستفحال العقلية الإقصائية كما توقف يوسف زيدان عند تمظهرات التطرف في التاريخ المُعاصر في رواية «محال» فيما يعودُ في رواية «فرقدان» إلى الحقبة التاريخية التي نشأت فيها دويلات على كاهل الدولة العباسية السقيمة ولم يعدُ للخليفة سوى الجانب الشكلي للحكم في بغداد. لا يسردُ صاحب «نور» المعلومات التاريخية إلا بقدر ما يخدمُ خطاب مشروعه الروائي الذي يهدف إلى الإبانة عن شراسة الأفكار المتزمتة في مسعاها لإلغاء قيم الحرية والتسامح وفي هذا المناخ الموبوء تزدادُ مسؤولية أصحاب النزعة الإنسانية وقد تكلفهم المواقف المناهضة للتشدد المتستر بالمذهبية أثمانا باهظة وهذا ما مرَّ به الشيخ الرئيس ابن سينا إذ قدر له أن يعاصر زمناً قاسياً غير أن ذلك لم يثنيه عن مواصلة التأليف والكتابة وعاش حياةً متعددة المسارات بين الشغف بالعلم والهيام بالمرأة ومرارة التشرد. وفي ذلك مادة ملهمة لكتابة الرواية.

المُعتقل
يأخذُ الوصف بنوعيه الموضوعي والذاتي مساحة كبيرة في تشكيلة عناصر الرواية إذ يكونُ مفتتح العمل هو مقطع يصفُ مشهداً طبيعياً مؤذناً بالغروب لا يخلو من دلالات إيحائية بأفول مرحلة الازدهار الفكري وسيادة العقليات المتحجرة وما يدعمُ هذا الترابط أكثر أنَّ عدسة الراوي تنتقلُ إلى قلعة فردقان المتربعة على الفضاء المكاني بما تختزنه من الإرث التاريخي فكانت معبداً في البداية ومن ثُمَّ تحولت إلى معتقل ينتظر ضيفاً استثنائيا وهو «ابن سينا» إلى هنا يؤكدُ السياق صحة القراءة الرمزية لمفردات المشهد بدءاً من عنصر الزمن مروراً بالمكان وصولاً إلى الشخصية التي يفتحُ له باب المعتقل.. زد على ذلك فإنَّ الترابط بين وحدتي الزمان والمكان هو ما يلمحُ إليه الاستهلال الروائي الأمر الذي يؤسسُ لبنية روائية مكونة من عناصر سردية متكاملة. ومما يُذكر في سياق الكلام المُتبادل بين الشيخ الرئيس وآمر القلعة «المزدوج» بأنَّ الأخير يعرفُ موقع ابن سينا وما ترمزُ إليه شخصيته من قيمة كبيرة مع أنَّ إين سينا هو مركز الإستقطاب الدلالي في فضاء الرواية إذ يردفُ لقبه عتبة العنوان لكن تشاركه الشخصيات الأخرى في حلبة السرد إذ يبدو أحياناً في موقع المروي له وذلك عندما يتكفل المؤلف بإخبارنا بأنَّ آمر العقلة يحكي سيرته لمُضيفه يشارُ إلى أنَّ طريقة السرد هي مما يُسميها «يان مانفريد» بسرد المؤلف حيثُ يتمتعُ الساردُ بسلطة غير محدودة في التدخل فضلاً عن التنظيم والترتيب يقوم بوظيفة تفسيرية. ويتضحُ ذلك في عبارة «ربما ليطمئنه حكى المزدوج لإبن سينا عن مولده…» يسترسلُ السردُ في نقل حياة منصور الملقب بالمزدوج بداية من مولده في ديار بكر ومن ثمَّ انتقاله إلى الموصل وما يعانيه من المرارة بعد رحيل والده وقتله لزوج أمه وارتحاله بين البلدان قبل أن يستقرَ به الوضع في قلعة فردقان لا يسلكُ السردُ نسقاً زمنياً متصاعداً بل تقطعُ اللقطات الاسترجاعية والاستباقية مسار القصة ويتدرجُ الساردُ في الحديث عن نشأة ابن سينا ففي القسم الأول يتوقف عند أصول والده الأفغاني وتقلده للمذهب الإسماعيلي وذكائه الحاد فكان عبد لله بن سينا موظفاً في زمن استقرار دولة السامانيين أما أمه ستارة فكانت امرأة خوارزمية ومن الملاحظ أنَّ الساردَ يفصلُ في وصف الشخصيات على المستويين الخارجي والداخلي. والأهم ما يردُ في هذا السياق هو تزامن وفاة الأب مع امتداد نفوذ محمود بن سبك تكين الذي سمي نفسه ناصر السنة وقامع البدعة. فيرفضُ صاحب «الشفاء» أن يكون موالياً للأخير وما أن يطلبُ الغازي الغزنوي من أمير الجرجانية بشحن العلماء الكبار إلى عاصمة مملكته في أفغانستان حتى يغادرُ ابن سينا المدينة ويأبى الانضمام إلى جوقة السلطان. وهذا ما يوغر صدر الغزنوي. الملمح البارز في شخصية ابن سينا هو انكبابه على الكتابة بينما هو قيد جدران المعتقل يقول « سوف أخايل نفسي بأنني لست حبيساً مادامت معي أدوات الكتابة» ويهمُ المؤلفُ ربط هذا الجانب بما يتصفُ به منهج الشيخُ الرئيس من التسامي على الاعتبارات المذهبية والدينية فهو يعترفُ قائلاً « أنني خلصتُ بالفلسفة والمنطق من المذاهب كلها» وهذا التحرر هو من متطلبات الاشتغال الفلسفي والعلمي واللافت في تجربة ابن سينا وهو سجينُ مباشرته بمعالجة المرضى إذ كان يكرسُ قسماً من وقته لمُعاينتهم ويتمُ تخصيص مكان للأدوية. وفي هذا يتقاطع ابن سينا مع رؤية الفلاسفة الذين ينجحون في تحويل الأزمة إلى عامل للنمو والإنجاز. يتم تمرير آراء ابن سينا في تضاعيف النص حول علاقة الفلاسفة والعلماء بالأمراء هذا إضافة إلى الإيماءات لعناوين المؤلفات التي أنجزها الشيخ الرئيس والمثير في هذا الصدد هو ما ينمُ عن شكوك ابن سينا عن فوائد الكتابة حيثُ يبدي تذمره من صروف الدهر ويعقبُ ذلك بالتساؤل عن الحكمة من هذه الحياة وسبب خلق هذا العالم البائس؟ ولا تفوت المؤلف الإشارة إلى ما اكتسبه ابن سينا من المعارف ودراسته لأثار أسلافه من اليونانيين فهو قد قرأ «الميتافيزيقا» لأرسطو أربعين مرة ولم يفهمه قبل متابعة كتاب «أغراض ما بعد الطبيعة» للفارابي .

المرأة
تتوزع المادة المروية على ستة أقسام ثلاثة منها معنونة بأسماء الرجال الذين يُسندُ إليهم دور تكميلي في الرواية والأقسام الأخرى تم ترويسها بأسماء ثلاث شخصيات نسائية ترخي بأثرها على حياة الشيخ الرئيس في مراحل مُختلفة وما يجدر بالذكر أنَّ المرأةَ في روايات يوسف زيدان لا تختزلُ إلى البعد الحسي إنما يكتسي وجودها دلالات معرفية و تبثُ شحنات داعمة للتحول ومضادات للجمود كما ترى ذلك في شخصية «أوكتافيا» و «هيباتيا» مع أنَّ الأنفاس الصوفية مبثوثة في نصوص مؤلف «ظل الأفعي» لكن لا يتجاهل زيدان الجانب الحسي الذي يتخذُ طابعاً حلمياً في التواصل الجسدي والأهم من ذلك فإنَّ الإنغماس في الروحانية لا يلغي رغبات الجسد والاشتهاء لدي شخصياته الروائية. يقولُ بطلُ عزازيل «لماذا لم يذهب من عندي اشتهاء الأشياء بعد كل هذه الصلوات والقداسات والتزهدات وفنون التقشف»؟ وكان الشيخ الرئيس قد صنف اللذة الحسية في المرتبة الأدنى قياساً للذة العقلية غير أنَّ في حياته قد نهل من مباهج الجسد الأنثوي ويضيء حوار الشيخ مع تلميذه الجوزجاني في سياق الرواية شغفه بالالتذاذ الحسي إذ يستغرب من إسراف ابن سينا وعدم تشبعه وما من الأخير إلا أن يعلل ذلك بأنه تعويض لمافات. وإذا كانت سندس هي صورة الأنثى الباذخة وروان تعبرُ عن الرغبة للارتواء وتجدد دورة الحياة فإنَّ ماهتاب بشخصيتها المؤثرة وجمالها النافذ وذكائها الحاد تمثل تركيبة جامعة للذة العقلية والحسية في آن واحد وبينما كانت تجربته مع سندس دافعاً لتأليف كتابه «البر والإثم» فإنَّ مصاحبة ماهتاب في قلعة فردقان أثمرت كتاب «القانون» كما حثته تلك المؤانسة على إكمال مشروعه «الفلسفة الإشراقية» إذاً فإنَّ هذه الرواية رحلة تاريخية متأملة في عصر متقلب يتقاطع مع زمننا لجهة تصاعد خطاب التوحش مقابل ضمور العقلانية ومن المعلوم أنَّ يمد صوت العقل بالقوة هو الثقة بالمستقبل لذلك يقول ابن سينا مخاطباً ماهتاب «عندي يقين أن ما أكتبه سوف يبقى بعد ألفي سنة « أخيراً يجب الإشارة إلى أنَّ ما يشدك إلى هذا العمل هو المتعة المتولدة من لغة منسابة وأحداث تكسب السرد تشويقاً والتمكن من التصميم. فضلاً عن اكتشاف آثار ابن سينا ومعاصريه من العلماء والفلاسفة. ومحنة هؤلاء مع الأزمنة القاسية وبرأ ابن سينا الزمن من القساوة وألقى باللائمة على عاتق طبائع الناس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة