سلام مكي
ينطلق الشاعر الراحل فوزي كريم في مشروعه النثري من الشعر وينتهي به. في كتابه( القلب المفكر.. القصيدة تغني ولكنها تفكر ايضا) الصادر عن دار المتوسط، يحاول كريم، استكمال مشروعه الذي بدأه بثياب الإمبراطور وتهافت الستينيين ومراعي الصبار وغيرها من الكتب المهمة التي اغنت المكتبة الثقافية العراقية. تضمن الكتاب خمسة أبواب تحدث في الباب الاول عن الشعر والاخلاق والنص النواسي وفي طبيعة العقل العربي والفكرة المرئية والشهادة على العصر في شعر زبيكنيو هيربرت. اما الباب الثاني فتناول فيه: الشعر والفلسفة وشرك الجمال الخالص والمعنى الخيالي. اما الباب الثالث، فهو الذي تناولناه في هذه المقالة، التي تضمن اضافة الى اول قصيدة مفكرة ثلاثة ملاحق بشأن جلجامش و لوكريتيوس: في طبيعة الاشياء و لوكريتيوس، دانتي وكوته. اما الباب الرابع فتناول: ابو العلاء المعري والنص المعري والشعر الفلسفي العربي وغيرها من المواضيع الاخر. الباب الخامس تناول شعراء مهمين كريتسوس وأليوت وريلكه وغيرهم.
أول قصيدة مفكرة هو الوصف الذي اطلقه كريم على ملحمة كلكامش، حيث يقول في مقدمة الكتاب: في ملحمة جلجامش للشاعر السومري، نقع على أول قصيدة مفكرة، تمنح زبدة أفكارها الكلية الى قارئها عبر المخيلة. القول بأن الملحمة شعر ليس جديدا، لكن وصفها بأول قصيدة مفكرة، يعتبر كريم أول من انتبه له. فوزي كريم يرى ان القصيدة المفكرة هي التي تفكر بعمق، وتخرج من قلب مفكر، ولا من عقل تجريدي النزعة. ويضيف: أقرأ القصيدة المفكرة، وكأنني أشترك في كتابتها، وأكتب القصيدة المفكرة وكأنها تصدر من أكثر من شاعر، وحين أكتب القصيدة المفكرة، فأنا أفكر ضمنا، ولكن لن يكون تفكيري ضمنا.. هذا الكلام لو جئنا لتطبيقه على ملحمة جلجامش، لو جدنا انه ينطبق عليها بشكل كبير. فنص الملحمة يختبئ خلف رموز وألغاز كثيرة، تأخذ قارئها بعيدا عن النص، ليجد نفسه محلقا في فضاءات الملحمة. والألفاظ ليست سوى أجنحة ليحلق القارئ بها الى تلك الفضاءات. الملحمة تمنح القارئ بعدا أعمق وأوسع مما تمنحه باقي النصوص التي غالبا ما تفشل في تحرير القارئ من قضبانها. حين تقرأ الملحمة، فإن هذا يعني التفكير، التفكير الذي يساهم بخلق نص جديد، يخرج من رحم النص الأصل. من الأمور المهمة التي تناولها كريم في الفصل الخاص بملحمة كلكامش، مسألة العلاقة المثلية التي لمّح بعض الكتاب لها والتي تربط أنكيدو بكلكامش. استنادا الى الحلم الذي رأه كلكامش، قبيل لقائه بأنكيدو. وهو الأمر الذي ذكره فراس السواح في كتابه( كلكامش ملحمة الرافدين الخالدة). يقول عن ذلك التلميح: هذا الميل العصري تسطيح للميول الغريزية الغامضة التي ينطوي عليها كيان إنسان الحضارات القديمة البكورية والناشطة في براءتها. الكتاب ربما يرى انه ثمة توصيفا آخر للعلاقة التي تربط بين كلكامش وأنكيدو، توصيف لم يسمه. يقول: وعلى امتداد الملحمة، تتنافس العلاقة بأنكيدو مع فكرة الزواج وتحل محلها.. فهو يرى ان ثمة علاقة بين الاثنين، جعلت كلكامش يتخلى عن فكرة الزواج في حياة أنكيدو، ويرفضها بعد موته وفاءً له. كما يسلط كريم الضوء على مسألة مركزية في الملحمة وهي فكرة الحياة والموت، التي اخذت حيزا مهما فيها بل وعدها البعض، الفكرة الأساس التي تدور حولها الملحمة. حيث كلكامش الذي كان يعتقد انه لا يموت، وبالتالي كان يرتكب الأفعال والمظالم التي تسببت في لجوء أهل أوروك التي الآلهة لطلب الشكوى ضد تلك الافعال، واستجابة الآلهة لهم عبر خلق غريم له يضاهيه في القوة وهو انكيدو. هذا الغريم، كان مخططا له ان يصارع كلكامش، ويلهيه عن أهل أوروك، كي يعم السلام فيها، لكن ما حدث كان مختلفا تماما، ولو انه توصل الى نفس النتيجة التي كانت مرجوة، وهي إرغام كلكامش على التوقف عن ممارسة الاغتصاب والسخرة وغيرها من الأمور التي تطيّر منها أهل أوروك. ولكن حين اكتشف كلكامش انه سيموت، تظهر له مشاكله الوجودية، واهمها مشكلة الموت، مما يضطره الى السفر عبر المحيطات ليحصل على عشبة الخلود، التي تسرقها منه الأفعى، وبعدها يوقن ان الموت هو قدر البشرية، بعد كلام سيدوري صاحبة الحانة. المفارقة ان كلكامش، توقف عن افعاله بمجرد التقائه بأنكيدو، وعقد صداقة معه. حيث ان طاقته توجهت الى خارج أوروك. وأول شيء فعله هو عزمه الذهاب الى الغابة، لقتل حارسها( خمبابا). وهو الأمر الذي جعل أنكيدو يبكي.. اي معرفته بالموت، لم تكن السبب الذي جعله يتوقف عن ممارساته الاول بل أنكيدو وظهوره كقوة مقاربة لقوته، هي التي جعلته يتوقف ويتجه الى أمور أخرى.